ماذا لو متُّ الآن وأنا لم أكتب شيئاً؟ كان سؤالاً بديهياً وجهته الرائعة رضوى عاشور إلى نفسها، في أزمتها الصحية أوائل الثمانينات، كان حديثاً صحفياً مطولاً، مغزاه هو سؤال واحد: لماذا تكتب رضوى عاشور؟
هنا تختلف الإجابات، لم تجد الرائعة رضوى إجابة محددة للسؤال، وأنا قد أجيب بأني أكتب حُباً للكتابة، وأنت قد تكتب؛ لأنك لا تملك سوى الحروف كي تقول ما بداخلك، وغيرنا يكتب؛ لأن صوتاً داخله يحكي له الحواديت ولا يهدأ، ويكتب؛ لأن الحواديت لم تُروَ لتقف عنده، إنما يحكي من الماضي ما ينير المستقبل.
الطريق نحو المستقبل دائماً تكون بدايته في الماضي، في تجاربه، وخبراته، وانتصاراته، وانكساراته، عندما ندرك ذلك جيداً، يكون حاضرنا أقل أخطاء، وأكثر حرصاً، ومستقبلنا أكثر نُضجاً واتزاناً، ولذلك نحكي.
" كُل واحد مننا يركب حُصان خياله.. درجن، درجن، درجن"!
يوماً ما لم أكُن من هواة الأفلام، وخاصةً الأفلام العربي، أذكر أني كنت طفلاً في غاية السطحية، لا أهتم بأي شيء في الفيلم، سوى ممثل معروف، وعدد من الإفيهات، حتى كبرت قليلاً، وشاهدت فيلماً ما، بالنسبة لي وقتها، كان مملاً، لم أفهمه، ولم أفهم مغزاه، ولم أهتم حتى لكثير من الجُمل التي قيلت، ولم أكمل الفيلم لنهايته.
ثم كبرت أكثر، وسمعت أغنية تُغنى على عود، تقول: "كل واحد مننا يركب حصان خياله"، في هذه المرة، أثارت انتباهي، أذكر أني سمعت تلك الجُملة من قبل، لكني وقتها لم أهتم، لم أفهمها إلا عندما كبرت.
بمرور الوقت، أصبح فيلم "الكيت كات" مُفضلاً، أشاهده مرة كل عدة أيام، حفظت جمله الحوارية، كانت حكايات حكاها الشيخ حُسني، أو يوسف، واستمعت إليها صغيراً وكبيراً، أصبح بالنسبة لي الشيخ حسني أيقونة، أعمى وسط ناس مفتحين، يغمض عينيه وقتما يشاء، ويفتحهما عندما يريد، يعيش الحياة كما يريد هو، وليس كما تريد منه الحياة، لا أنكر أن حكايات ذلك الفيلم عرفتني على العود، للدرجة التي جعلتني أشتري واحداً، دون أن أجيد الضرب عليه.
"ستي قالت لي إن العفريت أكل عقل أبويا وخلاه خدامة، عارفة كنت بعمل إيه؟ كنت بجيب سكينة طويلة وأربطها في طرف عصاية، وأدخلها جوّا العود، وأنغز بيها العفريت، لحد ما أمي ماتت، قلت يلا خليه يموتني، مسكت العود وغمضت عينيا وقعدت أعزف أعزف، وبعد شوية سِبته وبعدت بعيد وقعدت أترعش، ومن يومها صاحبته، خليت العفريت يغني...".
"جدو يا طيب يا أبو عصاية من فضلك احكي لي حكاية"..
كُنت في أسوان، وفي اليوم التالي لعودتي، قررت زيارة جدي في "البلد"، كنت أشعر أني بحاجة لمزيد من الحديث مع أناس طيبين، هؤلاء الذين التقيتهم هناك، لن أجد أحداً في مثل طيبتهم إلا جدي.
كنت أرغب في أن أحكي له عن رحلتي إلى أسوان، استجمع هو ذاكرته، وحكى لي: كان تجنيده في مدينة أسوان، ثم سألني: "رُحت خزان أسوان؟"..
قبل 56 عاماً من الآن، كان جدي واقفاً في نفس المكان الذي مررت منه بالأمس.
حكي لي عن تاريخ 9 يناير/كانون الثاني 1960، وهو تاريخ زيارة الراحل جمال عبدالناصر والملك محمد الخامس ملك المغرب وقتها لأسوان، عندما كان هو جندياً واقفاً على المدفعية.
أنا على يقين أن جدي لا يمكنه تذكر ماذا تناول بالأمس على العشاء، يشكو كثيراً من آلام الظهر، ومع ذلك ينسى تناول أدويته بشكل مُنتظم، يواظب على الصلاة في المسجد، لكنه دوماً ينسى ساعة يده في مكان الوضوء، ينسى كل ذلك، إلا أنه تذكر يوماً مر عليه نصف قرن وأكثر قليلاً.
في ذلك الوقت، كان قطار الصعيد أثناء عودته يقف في محطة المنيا، بجوار قطار للبضائع، مُحمل بالقصب الصعيدي، هنا ابتسم جدي ابتسامته العريضة، وهو يقول: "كان العساكر ينطوا على قطر البضاعة يجيبوا القصب، ونفضل ناكل منه لحد ما نوصل، ونسيب الباقي في القطر كمان".
لعل تقدم سن جدي أثر على ذاكرته قليلاً، لكن ذلك لم يمنعه من تذكر كل جميل مر عليه في حياته، لعله ينسى أشياء مكررة تحدث كل يوم، لكنه يحتفظ في عقله بأحداث مُتفردة حدثت في حياته مرة واحدة فقط.
زيارة رئيس، أول مُرتب، وأول رحلة حج، كلها أشياء، قبل ذكرها، تُزين بـ"أول"
ذلك لأن المرات الأولى من كل شيء لا تنتهي إلا بانتهاء الحياة.
أي رزق هذا الذي رُزقت به؟ أسير جانبه في بلدنا، يقف له الكبير والصغير، "إزيك يا خال - اتفضل يا خال - أشيل عنك يا خال"، حتى أن أطفال قريتنا عندما يرونني يقولون لي: يا خال!.
الجدود رزق، وحكاياتهم رزق، وتلك اللحظة التي يضحكون فيها، عند تذكر شيء جميل من ماضيهم، نعمة من أعظم نعم الله.
"وقريباً تكبر يا ولدي.. وتريد الدمع فلا يجري".
عندما تُهت لأول مرة في حياتي كنت في الخامسة من عمري، في بلدنا، قريتي التي نشأ فيها أبي وأمي، مشيت دون معرفة إلى أين سأصل، تماماً كما أفعل الآن، لكني وقتها تُهت.
المنازل التي أعرفها تستبدل بأخرى لم أرَها، وجوه أهل البلد المألوفة تتغير، كل شيء يتغير تدريجياً، كلما خطوت خطوة، اتجهت إلى ذلك الذي لا أعرفه، كان لدي كبرياء داخلي منعني من البكاء أمام أهل القرية، ذلك لأن في عقيدتهم- إن ما فيش رجالة بتعيط- لم أفهم وقتها أني صغير، وأن بكائي الآن وأنا تائه ليس ذنباً، ولو كان، فإنه مغفور، فصممت أن أكون كما الرجال.
سألت رجلاً كبيراً عن منزل الحاج كمال (جدي) الذي يقع أمام مقام الشيخ، صدمني وسألني هو: إنت إيه اللي جابك هنا؟.. وضعني على ظهر حمار، لأول مرة في حياتي، وكنا حينها أربعة، أنا وفاعل خير سيعيدني إلى المنزل، وخوفان؛ أحدهما من الحمار، وخوف التائهين.
ظل خوفي يقل شيئاً فشيئاً، كلما شعرت باقتراب عودتي حتى رأيت المنزل، وجدي، حينها اختفى خوفي تماماً، وعاد كبريائي ثانيةً، كما لو كان كبريائي الذي أظهرته حقيقياً.
في المرة الثانية، كنت أكبر قليلاً، كنت ألعب بالطائرة الورقية مع ابن خالتي، واثنين من الأصدقاء (زياد وعمر)، كانا جيرانه، وكنا نلعب قرب منزلهم، نربط الطائرات، كل واحد في "جادون عجلته"، ونطير نحن بالعَجَل؛ لتطير خلفنا الطائرات.
في غفلة ما، وجدت نفسي وحيداً، في أرض زراعية، قدماي قد غرستا في الطين، وسبقتهما الدراجة إلى ذلك، والطائرة محطمة على الأرض، أين ذهب من كانوا معي؟ وأين ذهبت أنا؟ حتى هذه اللحظة لا أعرف، تُهت أنا لفترة، لكن زياد وعمر تاها مني للأبد من وقتها.
في هذه المرة، اختفى كبريائي تماماً، وتعلمت من توهتي الأولى، وبكيت، حتى لا أبتعد عن المنزل، لعل بكائي يشغلني عن المشي، أو لعل رجلاً يراني ببكائي فيعرف حالتي، ويعيدني من حيث جئت.
وأنا أبكي، في لحظة هدوء وحيدة، شاهدت آخِر الشارع الذي أتيت منه، هنا توقف الدمع، رفعت دراجتي، وعُدت بقدم تملؤها الطين، وتركت الطائرة، أدركت أن الرغبة في الطيران حتماً ستؤدي إلى التوهان.
عندما تذكرت ذلك قريباً، أدركت أن البكاء في وقته "مُنجٍ"، فلو كنت بكيت في أول مرة، لم أكن لأبتعد كثيراً، وأن البكاء في غير وقته يعمي عن الطريق، فلو استمررت في البكاء ثاني مرة، لم أكن لألمح لطريق عودتي بداية.
" جِبت لي صاحب وحبيته"
عندما تقدم صديقي الأول في حياتي لخطبة فتاة أحبها وأحبته، كنت سعيداً للدرجة التي جعلتني أراقب كل التفاصيل، كما لو كانت خِطبتي أنا، لم أصدق حينها أننا كبرنا، وأن واحداً منا وضع قدميه في طريقه المرسوم، وأنها مجرد سنوات قليلة، بل ربما شهور، وسنتساقط واحداً تلو الآخر، كُل في خطوبته، وتخرجه، وأحداث حياته إلى ما لا نهاية.
لدي يقين تام بأن صديقي لم يكبر، ولا أنا، ما زلنا نجلس معاً، نقول كل ما كنا نقول، عندما كُنا طفلين، نضحك كما كنا، ونسهر معاً، نحب نفس الأشياء، حتى صفاتنا لم تتغير.
هناك يوم آخر لم يأتِ بعد، فرصة جديدة؛ لنعيش فيها كما نريد، نستمتع بالعمر، سواء كنت تراه صغيراً كما أراه، أو كبيراً.
في الغالب الاستمتاع باليوم أفضل وأحسن كثيراً من تضييعه، لكتابة عدة جُمل تبدأ بـ"كبرنا يا أمي"، وتنتهي بنصيحة عجوز، على عكس عمر كاتبها!
ما زلنا صغاراً، نرقص كما الأطفال، عندما تسنح لنا الفرصة.
" يا حزني السعيد.. انتهينا "
لا أتذكر تلك المرة التي كنت فيها في قمة سعادتي، بالتأكيد إنها ليست الآن، وليست أمس، لكنها وفي كل الأحوال، مرت عليّ تلك اللحظة، وعشتها، وستأتي لحظة أخرى، وسأعيشها.. وهكذا.
كتبت ذات مرة أن السعادة قضية تستحق القتال، كما الحرية، وما كتبته هو قناعتي الشخصية جداً؛ لذلك فأنا مؤمن بأنه من يريد أن يحيا سعيداً فليقاتل.
إن هذا الحُزن العميق بداخلنا ليس ضرورياً أن ينتهي؛ لأنه في أسوأ الأحوال سيكون دافعاً أخيراً لإعادة البحث عن السعادة، في طريق آخر.
لعلك في لحظة معينة تجد نفسك تخسر وتخسر، ثم تجد المُحصلة أنك فزت.
ربما خسرت أشياء، أشخاصاً، بل وسنوات من العُمر، لكنك في النهاية كسبت نفسك، هنا لحظة حقيقية جداً للسعادة، وتزداد عندما تدرك أن كل الأبواب المغلقة التي حاولت فتحها تحوي خلفها كثيراً من التعاسة.
" وهات العُمر مِ الأول"
لم أكتب كل ذلك لأجل أن أكتب والسلام، ولا حتى لأجل أن أحكي والسلام، فكل منّا لديه من الحكايات ما يكفي لملء كتب بأكملها، إنما كتبت لتوثيق لحظات عابرة قد لا أتذكرها مرة أخرى.
أوثق أني أفعل، كما فعل الشيخ حُسني، عندما ركب الموتوسيكل وهو أعمى، أثناء سيري بالسيارة في عمق الليل، وأفتح زجاجي، حتى يصطدم الهواء بوجهي، وأني أمشي كما يمشي يوسف عندما كبر، و(بقى عايز يطير، مش عايز يلمس الأرض).
أسجل أني تُهت، وبكيتُ، وعدتُ، وركبتُ قطار الصعيد، ومررتُ من حيث مر جدي، دون أن أعرف.
أدوّن لحظات كتب عنها غابرييل ماركيز عندما قال: "لقد تعلمتُ منكم الكثير أيها البشر، تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل، غير مدركين أنّ سرّ السعادة تكمن في تسلقه.
تعلّمت أنّ المولود الجديد حين يشدّ على إصبع أبيه للمرّة الأولى، فذلك يعني أنه أمسك بها إلى الأبد".
أبروز عدة حكايات حتى تتسنى فرصة أخرى لأبروز حكايات أخرى؛ ذلك لأني أرى في كل ما هو ماضٍ مرآة لما هو قادم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.