Quantcast
Channel: Arabi Blog on The Huffington Post
Viewing all 13463 articles
Browse latest View live

إضاءات تاريخية في قلعة حلب

$
0
0
"لها قلعة شهيرة الامتناع، ثابتة الارتفاع، معدومة الشبيه والنظير في القلاع، تناهت حصانة أن ترام أو تستطاع، قاعدة كبيرة، مائدة في الأرض مستديرة منحوتة الأرجاء موضوعة على نسبة اعتدال واستواء، فسبحان من أحكم تدبيرها وتقديرها، وأبدع كيف شاء تصويرها وتدويرها، عتيقة في الأزل، حديثة وان لم تزل، طاولت الأيام والأعوام وشبعت الخواص والعوام".
(ابن جبير في رحلته في وصف حلب)

قلعة حلب.. حتى الآن لم يعرف متى استقر أول إنسان في هذا الصرح العظيم، لكن وإن فكرنا من خلال القاعدة التاريخية التي تقول بدوام وبقاء المراكز الاستراتيجية، لتوصلنا إلى استنتاج أن القلعة مرت بمعظم الحقب التاريخية التي مرت بالمنطقة.

كما أن القلعة لعبت دوراً بارزاً في حياة مدينة حلب وأهلها، بحيث صانتها من الخراب في كثير من الأحوال، مثلاً عندما دخل الفُرس حلب خرج السكان من مدينتهم، واعتصموا داخل القلعة، وتكرر الشيء ذاته في العهد البيزنطي.

دخل العرب القلعة بحيلة الشاب دامس، وذلك في العصر الراشدي وهو بداية عصرها الذهبي، بحيث تسابق وتنافس الملوك والأمراء في عمارتها وإصلاحها وإضافة اللمسات والتحصينات إليها، ومنه بناء القلعة هيكلاً وتخطيطاً وتنظيماً دفاعياً هو عربي إسلامي، وهذا أمر لا شك فيه، يعترف به جميع العلماء.


أما أعمال الحفر والتنقيب التي أجريت فيها، قد أظهرت جدران معبد يعود إلى العهود الحثية السورية (القرن التاسع أو الثامن ق.م)، وبجواره قطعة هامة جداً من الحجر البركاني الأسود، نرى من خلالها تمثيلاً للاهوت الذي كان معظماً في حلب، والذي هو إله العدل وإله الوقت والإله الثالث حدد وهؤلاء الثلاثة يمثلون الثالوث المقدس الحلبي.

إضافة إلى نواويس رومانية وبيزنطية وصهاريج من أيام جوستنيان، وكان فيها كنيستان، إحداهما قبل أن تبنى كانت مذبحاً لإبراهيم الخليل فيه صخرة يجلس عليها لحلب المواشي.

إن أكثر الكتب الأثرية قد تحدثت عن قلعة حلب، والكتب المعتمدة الخاصة بحلب، وهي (الأعلاق الخطيرة، والدر المنتخب، وكنوز الذهب، ونهر الذهب، وأعلام النبلاء)، بدأت حديثها عن تاريخ قلعة حلب، من خلال بدايتها بقول لابن شداد: "أعلم أن القلعة التي كانت بحلب قد قيل إن أول من بناها ميخائيل، وقيل سلقوس الذي بنى مدينة حلب".

ولا يعلم من هو ميخائيل هذا، أما سلقوس فهو سلقوس نيكاتور القائد اليوناني الكبير الذي استقل بأحد أقسام إمبراطورية الإسكندر، الثلاثة بعد وفاته، ذلك القسم الذي سُمي (المملكة السلوقية) نسبة إليه.


قام سوفاجيه بدراسة هذه الجملة بإمعان في كتابه "حلب"، وقارن مستعمرة بيرويا التي بناها سلقوس نيكاتور شرقي تل حلب، بالمستعمرات التي بناها اليونان في سوريا، والتي كانت كلها مزودة بقلعة، وخلص إلى القول إن (موقع القلعة الحصين المتوج لتلة صخرية، يعود إلى نظام في التحصين استعمله العهد الهيلينيسي، مع تفضيل واضح، وأن تخطيط الجبهة الشرقية للسور يدل على رغبة جلية في الإفادة من هذه النقطة المشرفة للدفاع. فاقتنع عندئذ أن إشارة المصادر العربية إلى أن سلقوس نيكاتور قد بنى القلعة).

ومن الجدير بالذكر أن الولاة وأمراء جند قنسرين وحلب في العهود (الراشدي والأموي والعباسي) حتى زمن استيلاء سيف الدولة على حلب، وبداية الصفحة الجديدة فيها، أن هؤلاء الولاة والأمراء لم يقيموا بالقلعة الحلبية، بل سكنوا بقصور خاصة بهم.

أما سيف الدولة الذي كان غائباً عن حلب ويسكن في قصره الذي بناه، سكن القلعة التي لم يكن لها حينئذ سور عامر، فاهتم بعمارتها وتحصينها، كذلك أضاف ابنه سعد الدولة لمسات أخرى وسكنها.

وهكذا أعطى سيف الدولة وابنه للقلعة صفة جديدة ستحتفظ بها خلال القرون التالية أنها صفة (مقر إقامة الأمراء)، كانت عرضية خلال عهد الدولة الحمدانية، ثم غدت قطعية مع المرداسيين، فاضطروا هم ومن أتى بعدهم من ملوك في جعلها مدينة ملكية عظيمة وصفت بـ"مدينة داخل مدينة".

وقد أشاد الكتّاب والباحثون بدور نور الدين الزنكي وابنه بدورهما في ترميمها، وإضافة السور من جديد وتحسينه ومن بعدهما أعمال الملك الأيوبي غازي بن صلاح الدين؛ حيث إن الأدلة تقول:
- إن أقدم الآثار الموجودة في القلعة حالياً هي من أيام الظاهر غازي.
- إن العمل فيها استغرق نيفاً وعشرين سنة من الزمان.
- جميع الذين كتبوا عن حلب أشاروا إليها وأثنوا عليها، وخصصت صفحات عند سوفاجيه والصواف، ولدى كل من ابن شداد والبتروني والغزي وهرزفلد والطباخ.


سقطت دولة المماليك ومعها حلب بيد العثمانيين، بعد معركة "مرج دابق" الشهيرة، حينها يذكر أن القلعة كانت خالية من حاميتها وبمسرحية هزلية تمثلت بشخص عثماني (جندي) أعرج، وفي يده دبوس خشبي، قام بدخول القلعة والاستيلاء على كنوزها.

تضاءل دور القلعة كحصن دفاعي ملكي، مع دخول العثمانيين إليها وبداية عهدهم في حلب والمنطقة؛ حيث لم يضَف بها ذاك الوقت أي تحسين فظلت تقريباً على ما هي عليه سابقاً، بسبب أن القلعة لم تعد تتوافق مع وسائل القتال الجديدة في ذاك العصر، وغدت وسط المدينة إلا أنه نظراً لأهميتها كان يعين لها حاكم خاص مستقل عن (باشا ولاية حلب)، وكانت أحياناً مقر هذا الباشا.

سكن القلعة العديد من السكان، ومنهم الآن العائلات التي أطلق عليهم (آغا القلعة والقلعجي).

وإلا الآن من يقف أمامها يرى العصور المختلفة، يرى التطور والانكسار، يمر بكل أمير وحاكم وجندي، يستمع لضجيج الحياة فيها، ومع سنوات عصرنا هذا لم يختلف عليها شيء، ولم تتهاون بصمودها، مرت حولها حرب همجية ربما أعادتها لذكريات المغول والتتار، إلا أن تاريخها بقي الأقوى.



ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ما وقَر بين حاء وباء

$
0
0
أعجبُ لأولئك المساكين التائهين بين متاهات "واوٍ" و"هاءٍ" و"ميم"، تراهم هائمين غارقين في شيء بعيد عن الفرح، وإن كانوا كذلك يدعونه.

كلما ظنوا أنهم بلغوا المقصد على أعتاب الحاء والباء رأيتَهم يزدادون بعداً، وتَرى "جيماً" أو "راء" تأتي لتتخذ لها بينهما مقاماً باطناً، لا خلاص لهم فيه بعدُ للبلوغ وإن قاتلوا، إلا "طاءً" تحرق أوصالهما.. إذ ليس حرفانا مِمَّن بالشدة تُنال فضائلُهما، إنما هي تُلقى في قلوب الذين يستحقون، برفق وانسياب، برداً وسلاماً!

يسألونك عمَّا وقَر بين "حاء" و"باء"، قل بينهما الجمال بكل ما ضم من المعاني، والطهر بكل ما حوى من ألقاب.. عقيدة كل من أتى الكون بقلب سليم، صلاتُه فيها تراتيلُ نبض لا ثاني لسحرها، والذكرُ فيها بضْعٌ مما تخفق به الحياة؛ إذ كيف لا يكون كذلك وهو أجمل ما تجَلَّتْ وخُصَّتْ به.

كأنَّ الله خلق جمال الكون في كفة وجعل الحاء والباء في الكفة الأخرى، فلا استقامة للحياة دونهما، ولا استبصار لآيات العظمة في المخلوقات دون حضور تفاعلهما الملهم.

حاءٌ وباءٌ تقدَّسَا عنْ أن يَطآ قلباً اختلطت فيه مذاهبُ الدَّرن، وفَتَكَت بسويدائه سمومُ الخبث، أو قلباً بالجهل والجهالة قد استغنى بظلمته وظن أن حصنَه سياجٌ من جبروت لا يهترئ.


ما صَحَّ له وجمَالِ قِدِّيسنا ذي الحرفيْن قَطُّ أن يتآلفا، ولو حرص ذَوُوه، إنما يَسَّرَه بارئُه لقلوبٍ لوْ تُرِك لجمالها أن يفيض لعَمَّ ما ومن حوله، فلَكأنك بمنابعَ من نور كوثري منها يستقي العالم وَهْجَه فلا تهزمه الدلاهمُ ما طغت.

ويسألونك ثانية، قل فاسألوا أهل الحب إن كنتم صادقين، تَراهُمْ في خشوع يُلَبُّون، وحالهم يغنيهم عن النطق إذ تراهم غراً محجلين من جميل أثر المحبة عليهم، يكادون يملكون الكون بما هم فيه، تراهم، فتذكر الله، وتحمده إذ جعل من أجمل عطاياه أن زَفَّ للحاء باءها الخجلى، فكان للدنيا أن تجعل من ذا الزفاف أبهى ما به تبتهج، ألواحاً ألوانُها فرح، ونسمات ريحها عبق، وأنغاماً كلها طرب.

يباغتني أنينُ الأرض، إذ ضاق بها المفترون.. أولئك الذين لا يجدون خجلاً في أنفسهم من الإفصاح عن انتماء زائف للسجل المحرم، ذي الحاء والباء، فينتهكون الحرمات، ويمزقون الأواصر بشعارات تفوح منها روائح الإفك، ثم يُوَلُّون الأدبار كأن لم يقترفوا شيئاً، فأجد أنيني لأنين الأرض مواسياً، وأقول لنفسي: "عجباً كيف صار انتهاك الحرمات هيناً"، ثم تباغتني الأماني بعالم أجمل، عالم سؤدده "حاءٌ" لاقى بها السلطانُ إذ أُرفِقَتْ بأَنَفة "بائها" فاستوت على عرش القلوب وسادت فسيطرت بجمالها على كل ذي روح، وهل بعد ذلك بهاء يذكر؟

ألا بوركَتْ قلوبٌ رُصِّعتْ بلآلئ من حاء وباء، ثم كانت بذور حياة لكل أرض جرز، حيثما تُزرَع تُنبت، ثم تُوتِ ثمرها بإذن ربها، ثم تكون عمارة، فنعيماً.



ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

انشروا الحب كي تعيش العنكبوت

$
0
0
عندما تنغرس مخالب الظالم في نفسك، فهو لا يصنع لنفسه مَجداً بانتصاره بعد أن رسم على مُحَياك كل معاني الذل والهوان والانكسار، بانتصاره ذاك هو يحاول أن يشوه صورتك وشخصيتك فتصبحُ ظالماً ومستذئباً يَعوي بالظلم كما فعل، بنفس طول الأنياب والمخالب تلك.. حتى إنها قد تصير أطول مما يمتلك.

كل ظالم هو بالضرورة مريض، يحمل تحت جلده ولحمه كائناً مشوهاً، مليئاً بالثقوب من ماض مؤلم أو تجربة ظلم كان فيها الضحية، أو إحساس بالنقص يترجمه هجومه الشرس على ضحايا دون قوته ومكره.

لا مجال أن تصادف عنكبوت الحب بداخله، وهي تَحيك شباكاً حريرية حول قلبه؛ كي تتصدى لهجمات نفسية كالتي جعلت من قلبه عَضلة لا جدوى لها إلا ضخ لِترات الدم الفاسد في عروقه.

وكتلك الحقنة الملوثة التي تنشر المرض بين مدمني المخدرات، يحاول الظالم أن يغرس أنيابه فيمن هم دون قوته حتى لا يعيش العزلة في ظلمته، فهو يبني مجداً من الظلمة، وجيشاً من المرضى حوله؛ كي لا يبقى وحيداً في صقيع عالمه المظلم، فنجاح الظالم في أن يجعل منك صورة له بمعايير قد تزيد فيها هشاشة خيوط العنكبوت التي تحمي قلبك الصغير.

هشاشة خيوط العنكبوت توازيها هشاشة علاقاتنا الاجتماعية، سلسلة غذائية يأكل فيها قوينا الأضعف فالأضعف، تلك الدموع التي صنَعَت من أرضيتنا الصلبة وتربتنا الصالحة وحلاً لن يسعفنا في أي ردة فعل تجاه تلك الذئاب غير التخَبُّط الذي يزيدنا انغماساً أكثر فأكثر في وضعيتنا الأقل من أنها تكون دفاعية.

الحالة التي تصنع منا كائنات تبحث عمن تفرغ فيه ذلك الظلم الممارس عليها، أشخاص تتربص بمن هم دونها قوة وحجماً في زحمة الحافلات، وفي الشارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى داخل دور العبادة، الكل يتربص بالكل، والضعيف يكون هو الضحية التي لا محال ستبحث عن الأضعف في هذه السلسلة التي يقودها ذلك الظالم الذي بدأها بكلمة نابية في حقك هذا الصباح، أو بصفعة على وجهك، أو بحق سلبه إياك ظلماً وعدواناً.

وحتى لا تستمر الدائرة في التوسع، حتى تعيش تلك العنكبوت طويلاً، حتى نُخرج أقدامنا من بقعة الوحل تلك، انشروا الحب أينما ولّيتم وجوهكم، انشروا التسامح والتعايش، فكل ابتسامة في وجه عدو قد تُذيب تلك الرصاصة الموجهة نحوك، كل كلمة طيبة قد تكون ترياقاً لعضة الظالم.

انسلخوا من جلباب الضحية، وثوروا في وجه الظلم بالحب والضربة التي لا تقتلك لا تجعل منها ثقباً أسود في قلبك فيتوسع، بل اجعل منها ابتسامة عدّاء يقترب من خط الوصول.


2017-05-13-1494681936-5941255-BsM_JO2CUAAH0JX.jpg




ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مصر.. وماذا بعد كلِّ هذا الحصار؟

$
0
0
قبل انقلاب ٢٠١٣، انتهجت معظم الأحزاب الليبرالية واليسارية سياسة خالفت مبادئها الديمقراطية المُعلَنة عبر رفضها مدّ اليد إلى الرئيس المنتخَب، محمد مرسي (من الإخوان المسلمين) وإلى حكومته. التكتيكيات التعطيلية التي لجأ إليها "العلمانيون" رداً على سياسات الإخوان غير التوافقية وبدافع الخشية من استيلاء الإسلاميين على المنظومة السياسية المصرية، قذفت بالأحزاب الليبرالية واليسارية إلى أحضان تحالف مكيافيلي مع المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية التي كانت تسعى إلى قطع الطريق على الانتقال الديمقراطي في مصر. في أعقاب انقلاب 2013، قدّم معظم السياسيين العلمانيين الدعم للجنرالات، وغضّوا الطرف عن القمع الواسع النطاق وعمليات القتل الجماعي، كما توقّعوا أيضاً، وكانوا مخطئين في ذلك، أن تُبدي المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية اهتماماً بإقامة تحالف طويل الأمد مع الأحزاب العلمانية لحكم البلاد.


ومع اتضاح الصورة وانكشاف المسار السلطوي لعبد الفتاح السيسي الذي حظي ترشّحه للرئاسة في العام 2014 بدعم مباشر أو غير مباشر من معظم الأحزاب العلمانية، تكيّفت بعض هذه الأحزاب مع الواقع الجديد عبر القبول بالفتات السياسي الذي تركه لها الجنرالات - والذي كان أساساً مجموعة من مقاعد في البرلمان الراضخ بالكامل للسلطة التنفيذية. حاولت أحزاب علمانية أخرى الحفاظ على درجة من الاستقلالية التنظيمية والعمل السياسي المستقل، فيما كانت تدعم الحكومة في الوقت نفسه. فردّت الحكومة بإضعاف هذه الأحزاب من الداخل عبر إذكاء النزاعات في صفوف القيادة، من هذه الأحزاب حزب الوفد الجديد وحزب المصريين الأحرار. توجّهت مجموعة ثالثة صغيرة من الأحزاب العلمانية نحو معارضة الحكومة. لكن مع إغلاق مساحة النشاطات العامة، وتعرّض المنظمات الأهلية إلى ضغوط هائلة، وإقرار قوانين سلطوية جديدة، تراجع إلى حد كبير نطاق عمل الأحزاب العلمانية المعارضة وفعاليتها.


قبل الانفتاح الذي عرفته مصر لفترة وجيزة بين العامَين ٢٠١١ و٢٠١٣، كانت مأساة الأحزاب العلمانية، الليبرالية واليسارية على السواء، أنها اضطُرَّت إلى صياغة خطابها واستراتيجياتها التواصلية وممارساتها السياسية ضمن أطر تقييدية، حيث لم يكن هناك وجود البتّة لمنافسة مفتوحة على التفويض والنفوذ السياسيَّين. قبلت الأحزاب العلمانية في شكل أساسي تطويعها من جانب الحكومات المتعاقبة في مقابل حصولها على حصص ضئيلة جداً في السياسات الرسمية - مثل التمثيل المحدود في البرلمان. وأدى هذا الأمر إلى ظهور مكامن ضعف أساسية لدى هذه الأحزاب، بدءاً من افتقارها إلى قواعد شعبية ثابتة وصولاً إلى اتخاذها مواقف ملتبسة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأساسية. وبدلاً من الإفادة من الديناميكيات التعددية بين العامَين ٢٠١١ و٢٠١٣، عانت الأحزاب العلمانية من الانقسامات والتشتت وسيطر عليها هاجس الخوف من النجاحات الإسلامية في صناديق الاقتراع. وسرعان ما دفعها هذا الخوف إلى اعتماد تكتيكات تعطيلية وغير ديمقراطية، فأصبحت المسافة الفاصلة بين تقويض المبادئ الديمقراطية وبين دعوة الجيش إلى التدخل قصيرة إلى درجة مرعبة.


ومنذ انقلاب ٢٠١٣، يعمل عبد الفتاح السيسي على إعادة تثبيت ركائز السلطوية في العلاقات بين الدولة والمجتمع مستخدِماً أدوات متنوعة. لقد سعت حكوماته المتعاقبة، عبر إقرارها قوانين وتعديلات قانونية قمعية، إلى تحقيق ثلاثة أهداف: تقويض حرية التعبير والتجمع التي نص عليها دستور٢٠١٤؛ وإغلاق مساحة النشاطات العامة أمام المواطنين والفاعلين في المجتمع الأهلي والأحزاب والتيارات السياسية بعد فتح هذه المساحة لفترة وجيزة إبان الانتقال الديمقراطي؛ والتأكّد من احتفاظ المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية بصلاحيات مطلقة لا تخضع إلى أية سيطرة. وهذا عنى توسيع اختصاص المحاكم العسكرية، وتعميق الاختلال في التوازن بين الأجهزة العسكرية والأمنية من جهة وبين المكوِّن المدني في الدولة المصرية من جهة أخرى. في هذا السياق، صدر قانون التظاهر، وقانون الإرهاب، وتشريع المنظمات غير الحكومية، فضلاً عن تعديلات قانون العقوبات والقوانين المتعلقة بمنظومة المحاكم العسكرية - فضلاً عن أكثر من ٣٥٠ قانوناً وتعديلاً آخر. وكأن كل هذه الإجراءات لم تكن كافية، أعلنت حكومة السيسي حال الطوارئ قبل بضعة أسابيع بعد عمليتَي التفجير المروّعتين اللتين استهدفتا كنيستين قبطيتين يوم أحد الشعانين.


لا ينبغي أبداً إنكار أن مصر تُواجه تهديداً إرهابياً متفاقماً في الأعوام الأخيرة، في سيناء ومناطق أخرى من البلاد. بيد أن إعلان حال الطوارئ ليس الحل السياسي المطلوب. يتمتّع الجيش والأجهزة الأمنية بسلطات مطلقة في عملياتهما في سيناء وسواها من المناطق المصرية، وقد وثّقت منظمات غير حكومية محلية ودولية تورّطهما في ارتكاب فظائع وانتهاكات في مجال حقوق الإنسان. لم تسهم الصلاحيات المطلقة واللجوء المفرط إلى القوة في احتواء التهديد الإرهابي، ولا في تحسين الوضع الأمني في مصر. بل على العكس، ولّدت بيئة اجتماعية ترزح تحت وطأة المظالم، وتستجلب العنف في سيناء وخارجها. ولن يؤدّي إعلان حال الطوارئ، مع ما يضيفه من أدوات إلى سياسات النظام السلطوية، مثل إنشاء محاكم الطوارئ، سوى إلى استفحال الأزمة المزدوجة المتمثّلة في انتهاكات حقوق الإنسان وتعاظم التهديدات الإرهابية.


عادة ما وافق الرؤساء الذين سبقوا السيسي على فتح المنظومة السياسية جزئياً في الفترات التي مرّت فيها البلاد بأزمة شرعية أو تخبطت في مشاكل اجتماعية واقتصادية حادة. إبان الهزيمة العسكرية الساحقة في الحرب العربية-الإسرائيلية في حزيران/يونيو ١٩٦٧، وإزاء توسّع الحراك الطالبي في الجامعات اعتراضاً على الحكم السلطوي للرئيس جمال عبد الناصر (١٩٥٢-١٩٧٠)، سمح هذا الأخير ببعض الكلام عن الحد من الدور السياسي للجيش ومساءلة بعض الجنرالات. في السبعينيات، أدخل الرئيس أنور السادات (١٩٧٠-١٩٨١) تعددية حزبية محدودة في سياق الإجراءات الواسعة التي اتخذها لإعادة توجيه مصر بعيداً من النموذج الاشتراكي لجمال عبد الناصر، وأتاح التعبير عن رأي مخالف إلى حد ما داخل البرلمان. وقد عمل الرئيس حسني مبارك خلال حكمه الطويل (١٩٨١-٢٠١١) على الإبقاء على تعددية سياسية محدودة بهدف نزع فتيل بعض التشنجات الناجمة عن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية المستمرة. كان لعدد قليل من الأحزاب الليبرالية واليسارية حضور ثابت في البرلمان بصفة أحزاب أقلية، في حين ظل حزب الرئيس، الحزب الوطني الديمقراطي، متربعاً في سدة الحكم على الدوام. كذلك أتاح مبارك أيضاً هامش مناورة للمنظمات غير الحكومية، والنقابات المهنية، والنشطاء في مجال العمل العام. أما عبد الفتاح السيسي فيبدو أنه يعتقد أن السبب وراء سقوط نظام مبارك هو سماحه بوجود تعددية جزئية في البلاد. ولذا يلجأ إلى القمع الشديد والأدوات التشريعية وسرديات "الحرب على الإرهاب" والحصار الإعلامي (الحجب المتتالي للمواقع الإخبارية خلال الأيام الماضية) لإغلاق المساحة العامة أمام الجميع.


إزاء كل ذلك، لا يمكن استبعاد فرص اندلاع انتفاضة ديمقراطية جديدة ولا الاشتداد التدريجي لعود المعارضة السلمية التي لم تعد بذات ضعف فترة ما بعد الانقلاب.


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

اهدأ.. لن أختلف

$
0
0
في إحدى المرات دعاني صديق لي لحضور محاضرة لأحد المفكرين الذين يُجلهم، فذهبت بصحبته، جلست للاستماع لأحد الدعاة الذي قُدم إلينا على أنه إحدى العلامات الموجودة على الساحة، بدأ الموضوع بكلام أن الاختلاط مصدر كثير من الشرور والفتن، وتدرج الكلام إلى أن الحل الأمثل هو أن تدرس الفتاة إلى المرحلة الإعدادية وتحفظ القرآن الكريم ثم تتزوج وتلزم البيت!

حينها وسعت عيناي وقلت في نفسي فلأكتفِ بهذا القدر وأرحل في هدوء عن هذا العالم الموازي في الفكر، ولكن شيئاً ما بداخلي دعاني إلى أن أنتظر غير صديقي لأتعمق أكثر فيما يحوي هذا العقل ودوافعه لهذا الخوض، وهادنت نفسي فقلت: لا بدَّ أن الرجل لديه وجهة نظر في ذلك، فلنكمل الدرس ولا ننصرف، فبادر الشباب الجالس بالنقاش:


- لماذا لا تكمل الفتاة تعليمها الثانوي وتلتحق بالجامعة وتحفظ كتاب الله فتصبح الزوجة الطبيبة والزوجة المهندسة والزوجة المعلمة الحافظات لكتاب الله أيضاً؟
* أصلاً معظم الطبيبات فاشلات، عمرك سمعت عن طبيبة ماهرة!
- إذا كانت المشكلة في الاختلاط فلمَ لا نقترح الفصل التام بين الجنسين في المدارس والجامعات؟
* لا تفسد المرأة إلا المرأة!
- ولكن المرأة استعملها عمر -رضي الله عنه- في القيام بالقضاء في السوق، أليس لها حق التعلم والتوسع إن أرادت؟
* من أين تأتي بهذا الكلام؟! أليس من المناهج الدراسية؟ أنا هنا لأعلمك صحيح الفكر والدين!

وبعد نقاش على هذه الشاكلة من الأسئلة البديهية والأجوبة المؤذية نفسياً، لم يجد الرجل مفراً من قول إنه هنا اليوم ليعرض وجهة نظر ليست ملزمة!


القصد هنا ليس صبيانية تلك النظرة المهينة التي اختصرت المرأة في شيء، أشد ما لفتني وآذاني ما لمست من احتكار الحق والفكر الصائب عند العرض، هذا المسكين وضع نفسه في موضع الإحراج لما أخذ مجلسه على الكرسي وأنصت الناس إليه أنه المفكر أو الداعية الذي يدعو إلى الله على بصيرة، فحينما ذهب التبصر في الكلام وانحرف الفكر إلى الفكر الاحتكاري وعلت الأنا في الكلام (أنا هنا لأعلمك صحيح الفكر والدين!)، علت الأصوات على العالم فاضطر إلى أن يخفض صوته ويخرج من دائرة الإلزام النابع من تعليمه للدين إلى رحب: "هذه مجرد وجهة نظر يا بني، إن شئت أخذت بها وإن شئت فلا"، هنا فقط شعر الجالسون بالانتصار، وأنهم صاروا علماء أيضاً، وما جعل الأصوات تعلو على العلّامة فضلاً عن عبقرية المعروض هو جوهر الموضوع، الاحتكار وعرض كل فكر على أنه ملزم ومجلب للنفع، أما ما دون ذلك فيصعب أو فلا!

وهذه صورة من أسوأ صور التعصب الفكري التي تودي بالعلاقات البشرية وترابط المجتمعات على مدى الأزمنة، الغفلة عن قوله "وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" أودت بثقافة التقبل والاختلاف التي يدور حولها الموضوع!

الأشد فتكاً وإيلاماً للطرح الفكري والإثراء الذي يأتي به، أن يعرض العارض فكره ولا يضع في موازينه أنه قد يشوبه جهل أو ضبابية في زاوية الرؤية، ولهذا يمكن أن يَفسد ما يقدمه أصلاً، ويظل يردد ما قد أحاطه سنوناً ويلقنه أجيالاً دون أن يتوقف مرة واحدة ليسمع صوتاً هنا أو هناك يطالبه بإعادة النظر فيما يعرض، ويسارع إلى تصنيف من يخبره أن يعيد النظر بأنه مدفوع أو مأجور لهدم الثوابت، وأسهل ما يمكن أن يفعل هو الخوض في سرائر الغير، ولم لا يفعل وهو الذي لا يخطئ! وكيف يخطئ وهو المتبلد ذهنياً، المستمتع بما ينتج عن بؤس فكره، ولكنه الكبر، ذلك المكابر الذي بداخله أبى أن يمهد درباً لعقله سيقوده بلا ريب لعظيم وظائفه، أخفى ويا للأسى من أدوات منهجه "أفلا يتدبرون" فأفرز لنا مزيداً من المطلقية في عرض وجهات النظر، وتلكم والله لهي قاصمة الاختلاف وناشرة الخلاف!


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

التحوُّل من الإنسان إلى الفرد

$
0
0
ارتقى الإنسان من كونه إنساناً عادياً سالباً في عصر ما قبل الحداثة إلى كونه فرداً وذاتاً حرة مستقلة، تحول إلى الإنسان الإيجابي، في مسيرة معقدة ودامية لا تقل من حيث الثمن عن مسيرة الإنسان الطويلة خلال آلاف السنين التي تحول فيها بحسب إخوان الصفا ودارون من كائن ما قبل إنسان إلى الكائن الإنسان.

لكن هذا ليس كل شيء في مسيرة الإنسان إلى المواطنة، فبعد هذه المرحلة وفي ظروف مواتية يمكن أن يرتقي الإنسان الإيجابي إلى أن يصبح إنساناً - فرداً ومن ثم في مرحلة أعلى ليتحول إلى الإنسان الفرد المواطن، متخلياً أيضاً، بحسب الظرف، وشيئاً فشيئاً عن الإنسان الفرد، ليحيا مع مواطنين آخرين، مرتبطين جميعاً بعهد قانوني أو عهد مدني تعارف على تسميته بـ "العقد الاجتماعي"، يضمن جوهرياً، وبشكل أساسي، جميع حقوقه، كما يضمن حقوق الجميع كمواطنين أو كشعب من المواطنين.
هنا يحل مفهوم جديد للشعب، مضمونه المواطنة والمساواة، بعيداً عن المفهوم التقليدي للشعب، القائم على الدم والعرق أو اللغة أو الثقافة أو التاريخ..

ما سبق هو ملخص لرؤية تطمح إلى مجتمع شرق عربي بالأخص مجتمع سوري يتأسس على ثلاثية الإنسان- الفرد- المواطن.
وفي العودة إلى المقطع السابق بتفصيل أو بتجسيد يمكن القول: أنا الإنسان س لا أتخيل ذاتي كمواطن إلا بعد أن أحقق استقلالي الشخصي كفرد حر أعتز بفرديتي. فأصبح الإنسان الفرد س، وبعد ذلك أنتقل إلى مستوى ثالث، أرقى من المستويين السابقين، فأصبح المواطن س.
هكذا فالفردية بما هي استقلال للذات الحرة الإنسانية عبر تحققها وتبلورها كذات حرة تخص صاحبها، هي مرحلة متقدمة في تاريخ الإنسان، حتمتها المدينة والعلاقات المدنية حيث تنتهي العلاقات القطعانية والجماعية القرابية، التي هي جوهر شتى أنواع الهويات القائمة على الخوف والتجمع لضمان البقاء.


لكن كيف يتحول الإنسان إلى فرد؟

هناك شرطان للتحول من الإنسان إلى الفرد، شرط موضوعي وشرط ذاتي.

أولاً الشرط الموضوعي:

إن مرحلة التحول هذه لها أرضيتها وظرفها الواقعي، بعيداً عن التخيل والحلم، وتتمثل هذه الأرضية بحسب التجربة الأوروبية بالتحول في نوع العمل، من العمل الزراعي والخدمي إلى العمل الصناعي، وهو تحول ينتج عنه تلقائياً تحول من النمط الاجتماعي الريفي إلى النمط المديني، وتحول من ثقافة الريف والزراعة إلى ثقافة المدينة والعمل الصناعي، حيث كل شيء محكوم ومنضبط بشدة، غير معهودة من قبل، في النمط الزراعي أو الخدمي.

تصبح الثقافة المدينية هي السائدة بدل الثقافة الزراعية البسيطة أو بدل الثقافة الخدمية المدينية البسيطة، المرتبطة تاريخياً بالدين، دون أن يعني هذا زوال الزراعة والمزارعين أو التجارة والخدمات والعاملين بها.

لا فردية دون تصنيع وصناعة، أو دون قوانين والتزام بالقوانين، الأمر الذي يتطلب سلطة رادعة لتطبيق القانون العام تتمثل بالقانون الجزائي، وسلطة إجبار وهي الشرطة والقضاء والسجن، لكن الأهم، في طريق الوصول إلى الفردية هو توفر العدالة. والعدالة لا بد لها من عقل صارم ونفس مستقيمة وهذه لا تتوفر إلا في نظام ثقافي تعليمي قوي وراق.


ثانياً الشرط الذاتي: (التخلي عن الهويات الجماعية الجزئية):

إن أول تحول جوهري في نفسية الإنسان، يحوله إلى إنسان فرد يتكون في المدينة، ونتيجة ثقافة العمل الصناعي والتزام القوانين المدينية الصارمة، وهو ما يفصل الإنسان عن ثقافة الريف الزراعية البسيطة، وكذلك يفصله عن ثقافة المدينة الصغيرة الخدمية التجارية، وبالتالي يفصله عن الدين الرسمي والأفكار الدينية الشعبية، دون أن يعني ذلك دعوته أو إجباره على تخليه عن الإيمان.

كل ما في الأمر أن الإنسان يتحول من الجماعة الدينية إلى الفردية الإيمانية أو الدينية، أي يبقى مؤمناً أو مسلماً، لكن بعيداً عن المسلمين كجماعة وليس عن الإسلام كدين، وسواء كان الأمر متعلقاً بالسني أو الشيعي، كذلك الحال بالنسبة لبقية الأفراد المؤمنين والمنتمين بحكم الولادة أو الإيمان العلوي أو الدرزي أو الكاثوليكي. كذلك الحال بالنسبة للإثنيات، فلا بد من الخروج من الجماعات والهويات العرقية والإثنية قبل الانتساب إلى هوية جامعة مثل المواطنة السورية، دون أن يعني ذلك تخلي العربي أو الكردي عن العروبة أو الكردية لكنه تخل عن العرب والكرد كجماعة، وتحول إلى العربي أو الكردي الفرد لذاته وليس للآخرين.


التحول من الفرد إلى المواطن: (المواطنة تنازل إرادي من الفرد الكامل):

نأتي إلى خاتمة المطاف وغاية التطور الصاعد الذي يبدأ بالإنسان، فالمواطنة تتويج للفردية، هنا يقدم الفرد بإرادته على التنازل عن شيء من فرديته من أجل ذاته ومن أجل الآخرين، ليصبح هو وهم شركاء. المواطنة تنازل من مجموع الأفراد عن نسبة أو جزء من فردياتهم لأجل شيء أعلى وأشمل وأرقى، وهو تطور ليس بالقديم، بل هو أيضاً من ثمار المدنية الصناعية والتقدم الاجتماعي النفسي للإنسان.

في عملية التحول من فرد -ذات حرة إلى فرد- مواطن تتم عملية معاكسة لعملية التحول من إنسان ملتصق بهوية جزئية أو إنسان فطري إلى إنسان فرد. هنا يتم الانتماء إلى هوية جماعية هي المواطنة الخالية من أي هوى جماعاتي أو جزئي، قومي أو ثقافي.

ربما كانت هوية المواطنة هي البديل عن هويات تنتقص منها أو تنازعها الوجود، والطريق إلى المواطنة طويل معبد بالألم، لكنه ألم التجربة، الذي يضيئنا من الداخل، فيولد وعي جمعي راق أشبه بوعي المشاعية من حيث الشكل وبالحس الصوفي الإلهي المجرد من حيث الجوهر.


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سيناء.. ما بين الولاية والصحوات

$
0
0
أصدر تنظيم ولاية سيناء في الثلاثين من رجب الموافق 27 أبريل/نيسان بياناً تم توزيعه جنوب رفح، موجهاً إلى قبيلة الترابين، متوعداً إياهم بالمفخخات غير مكترث بالعصبيات القبلية أو الحدود الطاغوتية (حسب وصفه)، محذراً كل من تسول له نفسه الوقوف في مواجهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، محاولاً تهريب الدخان، أو من تسول له نفسه أن يكون ظهيراً لهؤلاء (المرتدين) من باقي عائلات القبيلة، فهم من خرجوا عليهم دون مشورة و استهدفوا (جنود الخلافة)، مطالباً إياهم ببيان حالهم من مناصرة الترابين، أو التبرؤ منها، ومطالباً العزل بالابتعاد عن أماكن وجودهم؛ لأنهم صاروا هدفاً له.

بعدها بيوم تصدر قبيلة الترابين بياناً حمل عنوان "بيان عام لعشائر قبيلة الترابين"، منددة فيه بيد الإرهاب الآثمة التي تبطش بأهالي سيناء، والتي ينهى عنها ديننا الحنيف، مشددة على حرمة بيوت سيناء، فتطبيق شرع الله لا يكون بالسيف (حسب قولها)، موضحةً قدرتها على الرد على أي اعتداء، مطالبةً حكماء ووجهاء القبائل بالتواجد في الميادين لإدارة الأزمة، واختتمت البيان بتهديد صريح لولاية سيناء، وتثمين جهود الحكومة المصرية والجيش بدورهم في محاربة الإرهاب.

يعتقد البعض أن التراشق الإعلامي بين ولاية سيناء وقبيلة الترابين والمواجهات هي وليدة اليوم، وهذا أمرٌ غير دقيق، ولكن ثمة عدة أسباب أدت إلى الحديث مؤخراً عن هذا الصراع، خاصة الفيديو الذي يظهر أفراداً بزي الجيش المصري يعدمون شباباً سيناوياً ميدانياً بشكل بشع بعد استجوابهم في ثوينات قليلة، وقد بدا أن المنفذين لعملية الإعدام يعرفون عوائل هؤلاء الشباب!


فولاية سيناء أصدرت عدة بيانات مرئية ومكتوبة تحذر فيها وتتوعد كل من يعين جنود "الردة" (حسب وصفها)؛ ففي الثامن والعشرين من جمادى الآخرة لعام 1436 هجرية (أي ما يزيد على العامين)، أصدرت الولاية بياناً بعنوان "تحذير ووعيد لمن أعان جنود الردة والتنديد"، وأعقبه في عام 2015 عمليات قتل وذبح لبعض (الجواسيس) وإحراق سياراتهم، والاستيلاء على سلاحهم ورمي جثثهم على الطرقات في الشيخ زويد والجورة والفواخرة بالعريش.. وبعدها بعدة شهور في الأول من محرم لعام 1437 هـ الموافق 15 من نوفمبر/تشرين الثاني 2015 تصدر بياناً تؤكد فيه مقتل وإصابة العديد من "مرتدي الصحوات" (حسب قولها) في كمين بالشيخ زويد.

فالشاهد أن الحرب بين الجانبين ليست مستحدثة، ولكنها سجال بين الطرفين، والمثير للاهتمام وصف الولاية للمتعاونين مع الجيش المصري بـ(الصحوات).

ليست هذه المرة الأولى التي يُستخدم فيها هذا المصطلح، فلهذا المصطلح تاريخ عريق، فعندما قدم نابليون إلى مصر أسس ميليشيات مسلحة لخدمة الاحتلال الفرنسي، وقاد هذه الميليشيات (الصحوات) يعقوب المصري، الذي احتقره المصريون، فطلب من نابليون أن يحمله معه إلى فرنسا ولو جثة هامدة، وبالفعل لبّى له نابليون هذه الرغبة، وفي الجزائر شكل الفرنسيون ما أطلق عليه (الحركيون)، وهم جزائريون ساندوا الاحتلال، وكانت نهايتهم الازدراء من الجزائر، فرفضت عودتهم إليها، كما أنهم يعاملون باحتقار من فرنسا، فوصفهم شارل ديغول بأنهم "لعبة التاريخ"، وفي فلسطين أسس شارون ما يسمى بـ(روابط القرى)، وترأسها مصطفى دودين، وكانت نهايتها الفشل، وفي فيتنام شكلت أميركا ما يسمى مشروع "القرى الاستراتيجية"، بين فيتنام الشمالية والجنوبية، ومؤخراً في العراق كان هناك "مجلس الصحوات" الذي أنشأته أميركا من مشايخ ووجهاء قبائل عراقية وفصائل مسلحة محسوبة على أهل السنة لمحاربة (الإرهاب) بعد فشلها في مواجهته وهزيمته.


وهذه التجربة الأخيرة (العراقية) هي التي استاق منها التنظيم مصطلح الصحوات؛ إذ إنها كانت ضد التنظيم الجهادي الأم في مهده، وكانت خنجراً في خاصرة التنظيم، فنجح فيما فشل فيه الاحتلال الأميركي آنذاك.

بعد نشاط المقاومة في الفلوجة، وفشل أميركا في تحقيق نصر عليها، رغم استخدام شتى الأسلحة الفتاكة وتدميرها المدن، وعدم قدرتها على التعاطي مع حرب العصابات في المدن، عمدت إلى تأسيس مجالس إسناد (صحوات) وروجت لها إعلامياً، مضخمةً من الخطر الإيراني (فأطلقت يد الميليشيات الشيعية ضد أهل السنة)؛ لتقنع عموم السنة بضرورة الوقوف خلف مشايخها ووجهائها في مجالس صحواتهم، وبعدها عمدت إلى الترويج للحفاظ على التراب العراقي، وإن تطلب ذلك محاربة المقاومة التي وصفتها بالإرهاب!

واستطاعت اجتذاب أحزاب سياسية بأجنحتها المسلحة، التي وصفتها بالوسطية كالحزب الإسلامي (المحسوب على الإخوان المسلمين)، بقيادة طارق الهاشمي.

قامت الصحوات بعد الانشقاق عن المقاومة بنقل معلومات عن رجال المقاومة وأماكنهم وعوائلهم، وساندوا قوات الاحتلال برياً في عمليات الإنزال الجوية الأميركية على بيوتهم، وتمت تصفية المئات من قادة المقاومة وإعدام واعتقال الآخرين، ودمروا المنازل فوق رؤوس عوائلهم، وبعد أن تحقق لأميركا مرادها بهزيمة المقاومة، بفضل مجالس الصحوات، تركتهم لميليشيات إيران على طريقة "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض"، وبعد ثلاث سنوات اختفت الصحوات من المشهد الميداني والسياسي نهائياً!

الحال في سيناء مشابه إلى حد كبير لما كان عليه العراق، فهناك مناطق لا يستطيع الجيش أن يدخلها بنفسه، وإنما يدخلها بصحبة ملثمين مدججين بالسلاح، يفتخرون بتعاونهم مع الجيش، يطلق عليهم "فرقة الموت"، أو "الكتيبة 103"، ينتشرون في الشيخ زويد ومنطقة الكوثر حي الزهور، وموقف المواصلات وسط المدينة، ويطلقون على أنفسهم كتيبة الموت؛ حيث إنهم معرضون للموت من تنظيم ولاية سيناء في أي وقت، كما يطلق عليهم الكتيبة 103 لتمييزهم، فالجيش هو (الكتيبة 101)، ومسلحو ولاية سيناء هم (الكتيبة 102)، هكذا يعرفون بين سكان سيناء!

ويقسم هؤلاء المسلحون (الصحوات) إلى مجموعات، تضم كل مجموعة 5 أفراد، يقودهم فرد يكون حلقة وصل مع ضابط في معسكر الجيش، ويعطيهم الجيش حق التعامل بالسلاح في أوقات معينة.


وعلى طريقة صحوات العراق، تكمن مهمتهم في عمليات "نوعية سرية صامتة" تتمثل في القبض على أفراد مطلوبين للجيش من منازلهم، وحضور تحقيقات مع محتجزين داخل معسكرات الجيش، وأحياناً يرافقون حملات الجيش أثناء مداهمتهم للمنازل في الشيخ زويد والجورة والماسورة.

ومع الوقت تطور دورهم إلى الانتشار الميداني بسلاحهم في الشوارع بعد صعوبة المواجهات بين مسلحي التنظيم والجيش، وتكبد عناصر الجيش خسائر في العدة والعتاد، وانتشروا أيضاً على أكمنة الجيش للتعرف على المطلوبين، ومن هنا أطلق عليهم لفظ "أبو إصبع"، وأطلق الأهالي عليهم مصطلح "مناديب".

أما وجه الخلاف بين صحوات سيناء وصحوات العراق يمكن في عدة أمور، لعل أبرزها أنها المرة الأولى التي تتشكل فيها صحوات على يد جيش بلد ضد أناس محسوبين على نفس الوطن؛ إذ كانت تتأسس في الغالب على أيدي قوات احتلال، كما أن صحوات العراق كانت تخضع لمشايخ ووجهاء القبائل والعائلات، على عكس صحوات سيناء؛ حيث يرفض الشيخ إبراهيم المنيعي رئيس اتحاد قبائل سيناء فكرة انتشار مسلحين في المدن، فهذا قد يجر العائلات إلى حرب أهلية، كما أن حماية المدن هي إحدى مهام الجيش (حسب قوله).

وتختلف نظرة أهالي الشيخ زويد لهؤلاء المناديب (الصحوات)، فمنهم من يرى وجودهم ضماناً للأمن والأمان، ومنهم من يرى فيهم عصابات وبلطجية يسعون لتصفية حسابات شخصية قبلية تحت غطاء من الجيش؛ فمنهم من تعرض للنساء بالتحرش والتطاول، مستخدماً سلاحه في ترويع العامة، ومن يعترض يكون عرضة للاعتقال، ومنهم من احتكر تجارة الحبوب وتهريبها!

يحصل هؤلاء المناديب (الصحوات) على رواتب شهرية من الجيش ومكافآت مع كل عملية خاصة، يحملون كارنيهات مختومة من الجيش والمخابرات لتسهيل عبورهم من الكمائن، وبعضهم استغل نفوذه في تلقي الأموال للإفراج عن بعض المعتقلين، وفي تهريب السجائر من نوع (رويال) عبر أكمنة الجيش التي لا تنجح أحياناً في إحباط تلك العمليات، بينما يتعرض هؤلاء المناديب إلى التصفية بالرصاص والإعدام قطعاً للرؤوس وإلقاء أجسادهم على قوارع الطرق من مسلحي تنظيم الولاية، وكان التنظيم قد أصدر عدة بيانات بتحذيرهم وتعزيرهم قبل أن ينتهج سياسة التصفيات والمواجهات المباشرة.

ما سبق يأخذنا إلى الفيديو المنتشر مؤخراً لمجموعة مسلحة ترتدي زي الجيش المصري وتستجوب شاباً سيناوياً ميدانياً في ثوانٍ بسيطة قبل أن تقوم بإعدامهم في مشهد بشع؛ فقد بدا أن هؤلاء الأشخاص يعرفون عوائل هؤلاء الشباب، والبعض يظن أن هؤلاء مجندون تابعون للجيش في حين أنهم مناديب متعاونون مع الجيش.


ما سبق يأخذنا أيضاً إلى طبيعة المواجهات الإعلامية الأخيرة بين تنظيم الولاية وقبيلة الترابين، فالتنظيم يتعامل مع الصحوات بغض النظر عن عوائلهم، سواء السواركة أو البياضية أو الترابين، واستطاع أن يكسر العصبية القبلية لينفذ عمليات إعدام بحق أي صحوجي، دون أن يجر القبائل لحرب أهلية، وساعده في ذلك عاملان هما أن التنظيم يشمل عناصر من أغلب قبائل سيناء مجتمعة، وبالتالي يصعب التفكير في الثأر، والعامل الثاني يكمن في سياسة الجيش ضد أهالي سيناء من تهجيرهم، وهدم أكثر من 15 ألف وحدة سكنية، وقصف المدن، والاعتقالات العشوائية، والتصفيات الميدانية على الاشتباه فقط.

هذه السياسة صنعت حالة من الاحتقان بين الأهالي والجيش وسخط واضح على المناديب المتعاونين مع الجيش.

هذان العاملان لم يساعدا فقط التنظيم في حربه على الصحوات، بل الأهم من ذلك أنهما يحفظان مدن سيناء من اندلاع الحرب الأهلية التي تحدثت عنها قبيلة الترابين في بيانها؛ إذ أصبح واضحاً للعيان أن هذا البيان من صياغتها تم على أعين الحكومة، وتحديداً داخل أروقتها الأمنية من خلال مجموعة من المناديب التي ضاق بها زرعاً ما قام به مسلحو تنظيم الولاية من محاصرة عمليات تهريبهم للحبوب وأنواع السجائر، وحاولوا التماهي والتمادي في تأجيج المشاعر، والتضليل بالحديث عن الوطن والحدود والإسلام الوسطي، والشريعة السمحة، والإشادة بدور الجيش والشرطة!



ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

جماعة الصادعون بالحق: أبعادها ودلالاتها في الصومال

$
0
0
النشأة والمفهوم

جماعة "الصادعون بالحق" من أقدم الحركات الإسلامية من حيث الفكرة والتأسيس، وذلك أن نشأتها تعود إلى عام 1974، ما يعني أنها بقيت أربعين سنة في ظل الكتمان والسرية، كما تعتبر هي من أحدثها نظراً لتوقيت تجديدها وإعلانها، حيث كشف أميرها المصري الشيخ مصطفى كامل في بيان صادر في الثاني من شهر أبريل الماضي، عن نفسها بدون أية مقدمات أو بوادر لظهورها خلال تسجيل صوتي ومرئي في ذكرى تدشين صورتها الحالية في البلاد العربية بشكل متناسق ومتزامن لأبعد الحدود.

وهي جماعة عالمية تتخذ مقرها الرئيسي في مصر. وتعد جزءاً من الجماعات التكفيرية التي أخذت واعتنقت الفكر التكفيري الذي نشأ في السجون المصرية في الستينيات من القرن الماضي، وتزعمها شكري مصطفى، الذي اتّهمت جماعته باغتيال د.محمد حسين الذهبي في 1977م.

ظهر في تسجيل إعلان "الصادعون بالحق" أسماء العديد من القياديين لها، إلى جانب العديد من الشخصيات المرموقة في عدد من الدول العربية. مكونين من أربع جنسيات: مصريون وهم الأكثرية وليبيون وصوماليون وكويتيون بدرجات متفاوتة.
ويمثل الصومال ثاني بلد يحظى فيه الصوادعة بأكبر عدد من المتابعين، حيث تتخذ عصابات الصوادعة بمقراتها الكبرى في كل من العاصمة مقديشو ومدينة جروي حاضرة ولاية بونتلاند، ومدينة هرجيسا عاصمة أرض الصومال التي أعلنت انفصالاً عقيماً منذ التسعينيات. ويقدّر عدد الصوادعة في شتى أقطار الصومال رقماً قياسياً يتجاوز المئات إن لم يكن الآلاف، متراوحين ما بين مؤيدين للفكرة ومتعاطفين معها، وهذا الرقم قابل ومرشح للزيادة بحكم واقع قياداتهم من التجار والأكاديميين، وبحكم ارتباطهم بفكر عالمي لم يكن وليداً في يوم، وإنما تمّ طبخه وبلوغه لمرحلة الرشد المتكامل.


ففي الصومال، استقال قبيل الصدع بعض عناصر الصوادعة من مناصبهم سواء في الخارج كبعض العاملين في شركة اتصالات الإماراتية، أو في الداخل مثل إداريين بجامعة جزيرة وجامعة دار الحكمة التي يعتبر رجالات الجماعة أكبر المساهمين فيها، بينما أرجأ آخرون استقالتهم. وجاءت استقالاتهم هذه استباقاً لاحتمال إقصائهم ربما، أو لإظهار أنهم مستعدون لأية تضحية.

ومن بين الشخصيات الصومالية التي ظهرت أسماؤها: الدكتور عثمان عبد الله روبله، والدكتور يوسف أحمد هرابي، والشيخ حسن عبدالله عسبلي، والمهندس يوسف إسماعيل، والدكتور عبد الله شيخ دون عبده، وبشير شيخ محمد عبدي. وهم مثقفون ورجال أعمال ونشطاء اجتماعيون وقياديون من حركة الأهلي في السبعينيات. وينتمي معظمهم إلى جماعة اشتهرت في الوسط الدعوي بجماعة التكفير (جناح الجو)، والتي ظلت في الصومال منذ منتصف السبعينيات من القرن الميلادي المنصرم، ولم تكن أنشطتها الدعوية معلنة مثل الجناح الآخر من جماعة (التكفير) المشهور بجناح (محمود نور) الذي يتخذ حالياً من مدينة قرطو (شمال شرق الصومال) مقراً له.

وتتفوّق صوادعة الصومال رغم إعلانها مؤخراً مقارنة بتنظيم داعش الذي يسيطر في أجزاء من شمال شرق البلاد، على كثير من الحيثيات والجوانب المختلفة من حيث الطبقية والثقافة والعدد والممتلكات الخاصة.


المنهجية والمبادئ للصوادعة

- تقوم هذه الجماعة من منطلق تكفيري ضد المجتمعات المسلمة في العالم، من خلال دعوتهم الواضحة إلى التوحيد من جديد (وليس الالتزام التفصيلي أو الإصلاح الشامل) ومطالبتها للأمة بالإعلان عن العبودية، ومن خلال تحديد مراحل دعوية لنفسها وصولاً إلى التطبيق الكامل لشرع الله. كذلك سعيها إلى إيجاد جماعة مسلمة من جديد، وليست مهمتها تصحيح ما هو قائم وموجود، وهذه هي نقطة خلافها مع الحركات التصحيحية الأخرى، التي تعترف بإسلامية مجتمعاتها ثم تنطلق في تصحيح الجوانب الأخرى من السياسة والاقتصاد والتعليم، والاجتماع.

- إن الهيئات التشريعية شرك والمجالس الشرعية منازعة لله في السلطان، وتسمي تلك الهيئات والمجالس بالطاغوت.

- حددت لنفسها مراحل دعوية تشبه بمنهجية الرسول -صلى الله عليه وسلم في الدعوة والخطوات التي سلكها،من خلال تحديدها بمراحل دعوية متسلسلة وتشمل بمرحلة السرية والابتلاء أي مكية ثم الجهرية والإعلان لمرحلة الدولة والتطبيق الكامل للإسلام ( أي مدنية).

- الجماعة لا تمارس العنف كخيار مبدئي للوصول إلى الحكم وتلتزم اتباعاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مراحل دعوته الأولى، وبما أنها في مرحلة الصدع بالحق فهي تمر في مرحلة "كفوا أيديكم"، ولا يعني هذا تخليها عن الجهاد، الذي سيأتي في حينه المناسب كما جاء في البيان.


السمات والصفات المنوطة بالصوادعة

- تستخدم الجماعة تكنولوجيا حديثة وآلات التواصل الاجتماعي بشكل متقدم كمنصة لتسويق وتبليغ دعوتهم الهدامة إلى العالم.
- تستحوذ الجماعة على شريحة واسعة من التجار والأكاديميين والدعويين المؤثرين في أوساط المجتمع الصومالي ككل.
- إن الشباب منهم لا يحق لهم الزواج إلا من بنات الجماعة، وليس أي بنت منهم، بل التي تختارها الجماعة له.
- يمارسون فيما بينهم ما يسمى بنظام الطبقية، فهناك طبقة المهمشين، وطبقة غير المسموح لهم بالعمل والمحكوم عليهم بتلقي مصاريفهم من تجار الجماعة وأغنيائها، وطبقة فوق المحاسبة، وطبقة تحت المجهر .


موقف العلماء الصوماليين من الجماعة

بعد رصد البيانات المتتالية لجماعة الصادعون بالحق الفرع الصومالي، أصدر علماء الصومال بشتى توجُّهاتهم وتياراتهم السلفية والإخوانية والصوفية بياناً قالوا فيه:

"إن هذا الفكر مبنيّ على تكفير المسلمين أو معظمهم، وأن هذه الجماعة تنطلق من مفاهيم خاطئة حول مسائل في العقيدة الإسلامية وفي السنة النبوية، وتفسّرها حسب أهوائها. وحذر العلماء المجتمع الصومالي من مغبة الفكر التكفيري الذي تبنّته هذه الجماعة وأمثالها من جماعات التكفير والهجرة التي يتزعمها الشيخ محمد نور عثمان. كما دعوا جماعة الصادعون بالحق إلى التوبة إلى الله، والرجوع عن تكفير المجتمعات الإسلامية وتحقيرها، وكذلك علماء العالم الإسلامي وعلماء الصومال أن يبينوا ويوضحوا للأمة كل ما يشكل خطراً على دينهم ومصالحهم العامة".


موقف الحكومة الصومالية والولايات الفيدرالية من الجماعة

تبنّت الحكومة الصومالية موقفاً صارماً ورافضاً لجماعة الصادعون بالحق، واعتبرت عقد أي تجمعات لهم منافياً للشرعية ومنوطة باتخاذ خطوات شرعية ضدها. فعلى مستوى الإدرات المحلية للبلاد كانت ولاية "بونت لاند" أول من قام بمنع الجماعة من انتشارها في أرجاء الولاية للحيلولة دون تفشي أمراضها ومفاهيمها الدينية الخاطئة فيها. ومن جانبها، فإن ولاية أرض الصومال قبعت في الحبس ثلاثة ممن أعلنوا هذا التنظيم في مدينة هرجيسا، متهمين إياهم بتبنّيهم أفكاراً دينية تمس الأمن القومي للولاية. وقامت بعض الجامعات في العاصمة الصومالية مقديشو بفصل الأساتذة المنتمين إلى هذا التنظيم التفكيري.


مستقبل الصوادعة ومخاطرها في الصومال

وتكمن مخاطر صوادعة الصومال رغم إعلانها قبل شهر واحد، في أنها أكثر تأثيراً من تنظيم داعش الذي تمّ إعلانه في شهر أكتوبر 2015. ومن حيث الحجم فإن الصوادعة تتجاوز على أفراد الشيعة الصومالية التي تُعدّ أقلية ضئيلة غير متجانسة في المجتمع الصومالي، وبالتالي فإن واقع قياداتهم الميدانيين من التجار والأكاديميين وبحكم ارتباطهم بفكر عالمي وتناسقهم الداخلى على أساس فكري وعقدي وتصاهرى وشراكة تجارية، يُشكّل خطراً واضحاً يعكس زعزعة دينية لامحالة قادمة للمنطقة من جديد .

وهناك ثمة مؤشرات تدل على أن صوادعة الصومال متدرجة نحو زيادة رقعتها في المجتمع الصومالي، حيث من الصعب الاختراق في صفوفها المتناسقة بشكل سري للغاية، مما يوحي بأنها ستمثل حجر عثرة آخر أمام المجتمع الصومالي الذي مازال يعاني من ويلات التنظيمات الإرهابية من القاعدة وداعش منذ التسعينيات.

وهذا يتطلب من الحكومة الصومالية وعلماء الصومال عدم الاكتفاء باستهجان الصوادعة أو حظرها، وإنما اللجوء إلى كل الأساليب العسكرية والفكرية المتاحة لمواجهتها وقضائها بشكل نهائي قبل أن تتفاقم إلى مشكلة دينية أخرى تضفي مزيداً من التعقيدات أمام الدول العالمية والإسلامية على حد سواء.


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

الباب مفتوح.. تركيا 2050

$
0
0
لم يسبق لأحد أن تخيّل المشهد الذي دار في أنقرة، صباح يوم ما في خريف 2007.. صعد الرئيس الإسرائيلي "شيمون بيريز" إلى "منصة الجمعية الوطنية الكبرى"، وشرع في التحدث بالعبرية، وهي المرة الأولى التي يخاطب فيها زعيم إسرائيلي برلمان أي بلد مسلم.

في القاعة التي عمها الصمت، قال بيريز إن "تركيا تشكل ترسيخاً للثقة، وأنا قد جئت لكي أعرب عن تقديري لتركيا".

أضحت مهمة تركيا العالمية لترسيخ الثقة، ولم تكتفِ مجموعة من الزعماء الأتراك التي قادت البلاد إلى العالم بكسر القوقعة التي اختبأ الأتراك في داخلها على مدى عقود، بل اعتمدوا الأصول التاريخية والجغرافية والثقافية والسياسية لتحويل تركيا إلى لاعب أساسي على المسرح العالمي.

مضى أكثر من نصف قرن على تركيا، وهي حليف سياسي وعسكري للولايات المتحدة الأميركية، علاقة قائمة على الشد والجذب؛ لكنها تناسبت دوماً مع حاجات اللحظة، وشكلت الحرب الباردة أطول هذه اللحظات التي تناغمت فيها حاجات البلدين تناغماً استراتيجياً، إذ أرادت الولايات المتحدة حلفاء يعتنقون المبادئ الأساسية لسياستها الخارجية، وقد شكلت تركيا دولة ثقة من دول خط الجبهة!


فهي مجاورة لدول الشرق الأوسط، لكنها ليست جزءاً من أي منها، وباتت تركيا نتيجة خيارها الخاص.

أمضت الجمهورية التركية بعدما خضعت لما سماه أحد الباحثين (جراحة تاريخية في فصوص المخ) قرابة القرن تنفي وتختبئ من ماضيها العثماني الذي حكم فيه الأتراك إمبراطورية واسعة امتدت من الجزائر إلى بودابست، ومنها إلى اعتناق الأهداف الاستراتيجية الغربية كأنها أهدافها.

قليلة البلدان التي أعادت كلياً صياغة مقاربتها للعالم بعد الحرب الباردة، لم تعد تركيا على خارطة العالم الجديد، بل عادت لتصبح مرة أخرى ذلك الجزء الجغرافي الذي كانت عليه منذ زمن سحيق.

فموقع تركيا وإرثها العثماني والمزيج الناجح من الإسلام يعطيها موقعاً استراتيجياً هائلاً، وهي تُمسك بهذه الاستراتيجية بطريقة لا تفيد نفسها فحسب بل أيضاً الولايات المتحدة والغرب.

أخذت على عاتقها دور "الوسيط والمُصلح"، والعالم في حاجة ملحة إلى بلد يؤدي هذا الدور، عندما رغبت إسرائيل في إجراء مباحثات سرية في سوريا حينما كانت! طلبت من تركيا ترتيبها، وكلما هبط مسؤولون أتراك في بلدان منقسمة على نفسها مثل لبنان، والعراق، وباكستان، واليمن تتلهف كل فئة للحديث معهم لا يحظى الدبلوماسيون في أي بلد بمثل الترحيب الذي يحظى به الأتراك في كل من طهران وواشنطن.

فقد قدم أحمد داود أوغلو حينما كان وزيراً للخارجية مفهوم لقبه "العمق الاستراتيجي"، تصور تركيا حمامة سلام فائقة النشاط، وقضى حينها مشروعه الأول على كل خلافات تركيا مع جاراتها؛ وقد نجح في هذا إلى حد كبير.

نظر العالم الإسلامي إلى تركيا في معظم تاريخها الحديث على أنها مرتدة، فقد انتزعتها إصلاحات أتاتورك بعيداً جداً عن الإسلام، حتى بدا أنها لا تتمتع بأي شرعية دينية.

يمكن القول بأن اعتناقها للسياسات الأميركية شوّه سمعتها التي يجدها الكثيرون من المسلمين بغيضة، ولا ينطبق أي من هذه الاعتراضات على تركيا اليوم: إذ يحكمها إسلاميون ورعون من وجهة نظر البعض، وتمتلك سياستها الخارجية الخاصة، ويلقى زعماؤها ترحيباً في أماكن كثيرة لم يكونوا مهتمين بزيارتها في الماضي.

تركيا لم تواجه أي مقاومة تذكر تجاه طموحها الجديد، وباحتفاظها بعلاقات طيبة مع الحيز الواسع من الحكومات والفئات تؤدي دوراً لا يمكن لأي دولة أخرى أن تؤديه.


السنوات المائة المقبلة

لم يكن من قبيل الصدفة أن تكون تلك الكلمات عُنوان دراسة للباحث الأميركي جورج فريدمان، توقع فيها القرن الحادي والعشرين، فالماضي بشكل أو بآخر ينحت مسار المستقبل كالمعادلة الكيميائية التي تحتاج لمثلث الحرارة لتخرج بانفجار النتيجة.

قال: عندما ننظر إلى حطام العالم الإسلامي بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ونفكر بالدولة التي يمكن أن تؤخذ على محمل الجد في المنطقة، نجد في وضوح أنها "تركيا"، وأرفق توقعه بخارطة للشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب شرق أوروبا تحت عنوان "دائرة النفوذ التركية عام 2050"، وبدت بشكل لافت أشبه بخارطة الدولة العثمانية.

ثمة ثلاث دول مرشحة لأن تلعب دوراً في العالم الإسلامي: مصر - تركيا - إيران، حسبما ذكر جورج فريدمان عام 2009، أي قبل اندلاع الثورات العربية بثلاث سنوات، إلا أنه توقع أن تكون المنطقة العربية بحراً من الفوضى، وسيجعلها هذا نهباً لكل طامع، وستبلغ من التمزق حداً يتجاوز التوقعات، وضعف "مصر" وانهيار اقتصادها يسحبها من هذه المنافسة، وكذلك فإن ما تعانيه "إيران" من عداء بينها وبين العرب وانشغالها بتأمين نفسها ضد صِدام أميركي يحرمها كذلك من هذا الدور، فلن يبقى إلا الأتراك،
يبدو أن هذا الانجراف لا يجرد تركيا كونها شريكاً فريداً للولايات المتحدة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تركيزها الجديد على الشرق الأوسط وآسيا، فتركيا تعزز جاذبها الجغرافي من خلال توسيع امتدادها السياسي، ولهذا توصلت أميركا إلى الإدراك أنهم يفتقرون إلى الأدوات التاريخية والثقافية للتحرك في فاعلية في الشرق الأوسط والمناطق المحيطة بها ويحتاجون إلى إرشاد، وربما كان الأتراك على أهبة الاستعداد لهذا النوع من العلاقة مع الولايات المتحدة.


ولكن السؤال: لماذا النشاط التركي الواضح في الشرق الأوسط وآسيا؟

لا أحد يستطيع أن ينكر أن تركيا نضجت كدولة، وامتلكت الثقة بالنفس لأداء دور عالمي، حررها انتهاء الحرب الباردة من القيود السياسية، ووفر لها فرص ملاحقة مصالحها الأوسع، أو لأن تركيا لا تقبل الإهانة من أحد، وتسعى دائماً إلى إبرام اتفاقات صداقة جديدة في أي مكان.


وإذا نوهت الكلمات الأخيرة بمصالحها مع أوروبا، ولكن كيف ذلك؟

فقصة الحب العاطفية من أجل المصلحة بين أوروبا وتركيا وصلت إلى طريق مُظلم لا يرى أحد قيد أنامل الآخر، فقد ناقض بعض الزعماء الأوروبيين في شكل مباشر الوعد الذي قطعه الاتحاد الأوروبي لتركيا من حيث الانضمام إلى الاتحاد، فالأمر سيئ لتركيا لأن الاتحاد الأوروبي ساهم لسنوات في تشكيل السياسة الخارجية لتركيا.

ومن ناحية أخرى، تعاني أوروبا من هذا الصدع ففي حالة دخول تركيا الاتحاد الأوروبي ستكون لاعباً محورياً أساسياً، ورسالة واضحة إلى البلدان الإسلامية نصها (لو أصبحتم ديمقراطيين فسيفتح لكم العالم أبوابه)، وبرفض قبول تركيا تصبح الرسالة معكوسة.

رغُم الفوائد التي ستعود على أوروبا من انضمام تركيا في تهدئة الجماعات في العالم الإسلامي الذين يشكلون تهديداً لأوروبا، وشبابها المتلهفين للعمل ولدفع الضرائب التي تملأ صناديق تقاعد من شابوا في البلدان الأوروبية، فقد فقدت أوروبا حماستها في هذا، فالمواطن الأوروبي العادي لا يتحمس لانضمام تركيا، وبات يمتلك هذا المواطن كلمة أكبر في قراراته، ورأى نخبة رافضة من الأساس أن يوجد مقعد لأي بلد مسلم في الاتحاد الأوروبي.

يخشى آخرون كُلفة الدعم المستقبلي لتركيا بعد أن أنهك التوسع قواهم في قبول الكثير من الدول خلال السنوات الأخيرة رغُم ذلك، هناك تخوفات من تخلي تركيا عن بقايا صداقتها مع أوروبا والاتجاه لمصلحة توجه مختلف.

عوائق تنتشر في طريق تتويج تركيا واحدة من دول الاتحاد.. عوائق من صنع أوروبا وأخرى من تركيا نفسها.

عام 2023 ستحتفل تركيا بالذكرى المئوية على وجودها، كدولة ذات سيادة، مما يفيد بشكل كبير الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها التي أشار إليها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، في خطابه أمام الجمعية الوطنية الكبرى: (لدينا هدف مشترك في السلام الدائم بين إسرائيل وجيرانها، ويمكن للولايات المتحدة وتركيا مساعدة الفلسطينيين والإسرائيليين على القيام بهذه الرحلة).

تتوافق المصالح الأميركية بعيدة الأمد مع تطلعات تركيا.. شراكة واعدة تتناسب أهدافها الاستراتيجية.



ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

هل توجد علاقة بين السلوك الإنساني والمحددات الاجتماعية للثقافة الإسلامية؟!

$
0
0
إن الشعوب العربية وهي تعبر إلى مستقبل الأجيال الناشئة، قد يكون للمحطات التاريخية التي مرت بها وقفة جادة مع التوجهات الإقليمية التي وجهت مساراتها، وانطلقت من خلالها إلى آفاق رحبة، والتي من الممكن أن تسافر عبر آلة الزمن؛ لمعرفة الأطر المجتمعية التي ساهمت في تقديم صورة مضيئة عن الواقع العربي في مراحل مختلفة، وكان فيها السياق التاريخي للحضارة الإسلامية ضمن الأدوات المنهجية التي ساهمت في وضع المحددات الاجتماعية للثقافة الإسلامية.

إن العوامل الثقافية لأي حضارة إنسانية هي التي جعلت من حالة التمازج الثقافي بين مكوناتها، أنموذجاً للتأمل الفكري حول الحركات الاجتماعية والسياسية التي قد تنشأ عنها من حيث أساسها، ولهذا كانت ثمة أسباب عملية ونظرية وراء إخضاع هذا النموذج بما يحمله من مفاهيم لأقصى درجات التفحص والتدقيق.

لذلك نجد أن "القيم الثقافية" في مجتمعاتنا المعاصرة قد تتطلب فهم الأحداث التي مرت بها، والتطورات التي رافقت عملية التحديث للأطر المجتمعية حول جدلية استخدام المفاهيم والمصطلحات ذات الألوان الأيديولوجية، لإيجاد أسباب مقنعة وشرحها، بشأن قضية تتبُّع تطورات سياسية، في سياقات إسلامية شبه صرفة.

ومن تلك المفاهيم، مفهوم أو ماهية المدرسة، باعتبارها مؤسسة اجتماعية تربوية حظيت بالاهتمام والدراسة منذ زمن طويل؛ وذلك نظراً لثقل المهمة الموكلة إليها من قِبل المجتمع، ولعظم التوقعات المنتظرة منها.

فقد تباينت آراء المفكرين والتربويين حول كلمة "مدرسة"؛ فيشير بعضهم إلى أن لفظ "مدرسة" مولّد عند العرب مأخوذ من العبرانية أو الآرامية وأصله "مدراس" أو "المَدرَس"؛ أي الموضع الذي يُدرس فيه، كما وردت بكلمة "س ك ل" السامية وتعني أحمق، غبي، مهمل، غافل، وهنالك "saklu " الأكدية وتعني أحمق و"سكل" العبرية بمعنى "مكتنز، سمين، ثبات، بسالة، بطالة، حماقة"، وإن كان بعضهم يرفض ذلك باعتبار أن "المدرسة اشتقاق عربي سليم".

ويستطرد السامرائي قائلاً: "وكون مدراس لدى العبرانيين لا يعني ضرورة أن لفظ (مدرسة) من محاكاة العرب للعبرانية، وقد جاء في الحديث الشريف (تدارسوا القرآن)، أي يدرسه بعضكم على بعض، ومن هنا عرف المسلمون المدراس، وهو البيت الذي يُدرس فيه القرآن (كما كان ) المدراس في الجاهلية: البيت الذي يدرس فيه اللهو، ويتفق معه الونشريسى قائلاً: المدرسة مشتقة من الدرس".

أما في مجتمعنا المعاصر، فقد حاول العلماء تحديد مفهومها، وتعريفها بأنها "مؤسسة اجتماعية تعكس الثقافة التي هي جزء من المجتمع"، وينظر إليها آخر بأنها "نظام فرعي مرتبط بالنظام الاجتماعي والتربوي"، كما يمكن وصفها بأنها "وسيلة وآلة ومكان في آن واحد، ينتقل الفرد من ذلك المكان وبواسطة تلك الآلة من حياة تتمركز حول ذاته إلى حياة تتمركز حول الجماعة، وبحيث يصبح من خلال تلك الوسيلة أنساناً اجتماعياً وعضواً منتجاً وفاعلاً في المجتمع ".

وإجمالاً لمفهوم المدرسة، يمكن القول: إن المدرسة مؤسسة اجتماعية تقوم بعمليتي التعليم والتربية، وتعمل على إكساب التلاميذ المعرفة والمهارات والخبرات التي يحتاجونها في حياتهم الحاضرة والمستقبلية، وتساعدهم على التفاعل مع بيئاتهم، كما تعمل على نقل التراث بين الأجيال، وعلى غرس قيم المجتمع ومعاييره في نفوس الناشئة وعقولهم؛ لتمكينهم من أن يسلكوا السلوك الاجتماعي المقبول في مجتمعاتهم.

ومن ناحية أخرى، تعمل المدرسة على تنمية القدرات الفردية وتشجيعها وتقوية الاستعدادات؛ كي يتمكن الأفراد من الاستجابة للتحديات والمتغيرات في مجتمعاتهم، ومن ثم مواكبة التغير والتطور وتلبية مطالبهما.

ومما سبق نجد، أن الإنسان الذي يحاول التعامل مع مفارقات التاريخ وتناقضاتها، قد يقترب من المرحلة التي تعبر عن مكنون الذات الإنسانية، ويكون بذلك قد أوجد النماذج المؤدية إلى استيعاب ماهية الخطاب القيمي لجدوى ذلك التعامل في سياقات متعددة.

وبذلك، نجد حالات "ضمنية" للسلوك الإنساني تتضمن الدافعية والتأثير والتأثر بمسارات ذلك السلوك، ولذلك يظل الإنسان في حالة تماهٍ مع الواقع، قد يتضمن أبعاداً أخرى ضمن فاعلية القوى المؤثرة والمتأثرة من جراء الاندفاع وراء تحقيق أهداف "ضمنية "، وليست أهدافاً "معلنة" حول مدى إمكانية إحداث تغير في السلوكيات والممارسات، ومن المحتمل أن ينتج عنها آفاق مستقبلية، لكنها قد تتعارض مع الوسائل والأساليب المحددة لطبيعة التفاوت "القيمي" في معرفة الأفكار المنبثقة عنها.

ويظل ذلك الفكر في مرحلة استجداء لكثير من المواقف السابقة، واعتبارها ضمن أولويات غير ذات صلة بالمتطلبات اللازمة للإيفاء بالشروط الموضوعية المعنية بإيجاد نوع من المصالحة الذاتية ضمن عوامل الانضباط الذاتي أو التكتيكي، والتي قد تُسهم في رفع درجة الشفافية بين المدرسة والبيئة الخارجية في ظل نظام ثقافي شامل.

إن الانسيابية في وضع المحددات الاجتماعية للثقافة الإسلامية قد تكون ضمن تلك العوامل، وآليات البحث عن مفرداتها ومفاهيمها قد تتطلب إزالة الحواجز النفسية المصطنعة، التي قد تُحدث لغطاً إدراكياً حول النماذج البشرية المعبرة عن دلالات تلك الثقافة؛ ما يُمكن أن يترتب عليها في مجال الفكر التربوي والإسلامي.

إن المسألة ليست قضية جدلية فحسب؛ بل حالة واقعية أو متخيلة للأساليب المقترحة أو المرجوة من التفاعل الاجتماعي مع البرامج المتوقعة من الأنماط المتعددة لطبيعة السلوك الإنساني، والتي قد تتجاوز الإطار الفكري المتعلق بالزمان والمكان؛ لتجعل من السياقات الواردة أعلاه ضمن أرجوحة اللغة الهوياتية والنماذج المعبرة عنها.




ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

دفاتر مريم

$
0
0
عندما استيقظ ذات صباح في شهر أغسطس/آب القائظ، كان جبينه يرشح عرقاً، بدأ يتمتم بكلمات مبهمة وهو يتلوى ألماً من صداع في منتصف الرأس، بعد أن كان قد قضى ليلته في صراع مع الكوابيس التي داهمت نومه ولم يتذكر منها سوى عبق رائحة السجائر حين امتص آخر سيجارة، وألقى برأسه على الوسادة كي ينام.

ولم تجدِ نفعاً مع هذه الكوابيس جميع المحاولات لطردها، واصطف أفراد عائلته واجمين بجانب سريره لا يدرون ما يفعلون، بعد أن أيقظتهم صرخته المدوية منتصف الليل، إلا أن والدته العجوز أصرت على تلاوة بعض سور القرآن الكريم فوق رأسه وهي تمسح جبهته براحة يدها اليمنى عساها تطرد الأرواح الشريرة التي نغّصت نوم فلذة كبدها.

كان حين استيقظ قد قرر -وهو بالمناسبة نادراً ما يستطيع التقرير في شأن من شؤون حياته- أن يحطم احتكار الكتابة الصحفية على حد تعبيره، وأن يقتحم أسوار هذه القلعة المغلقة على أصحابها وينضم إلى جنود القلم، كما كان يسميهم، الذين كان يراهم يدخلون ويخرجون من الباب الرئيسي لمقر إحدى المجلات الحزبية الأسبوعية، وكان صاحبنا حريصاً على مراقبة مدخل البناء، يتأبطون بعض الصحف اليومية وحزماً من الأوراق لا يدري ما بها، ومنهم من ارتدى ثياباً بالَغ في أناقتها بدرجة لافتة، تتدلى حقائب جلدية من أكتافهم يتنافسون في اقتناء الأجمل منها، والله وحده يعلم ما بداخلها، ولم يجرؤ صاحبنا يوماً على الاقتراب منهم، رغم أمنيته أن يلقي التحية على واحد منهم، أو أن يبادروه السلام أحدهم، إلا أن شيئاً من هذا لم يحصل.

وبعد طول انتظار وتردد، ارتدى صاحبنا أفضل ما لديه من ثياب وسرّح ما بقي من شعر رأسه، وكي تكتمل الأناقة أفرغ نصف زجاجة عطر رخيص فوق رأسه، وعرج إلى محل تصليح الأحذية في طريقه إلى المجلة كي يلمع حذاءه ويرتق الثقوب الجانبية فيه كي لا يلاحظها أحد، مما قد يحول دون تحقيق ما قد عزم على البدء به.

طرق باب المجلة والتقى عدداً من المسؤولين في إدارتها وفي هيئة التحرير، وأصر على أن يلتقي مسؤول قسم الدراسات السياسية والاستراتيجية بشكل منفرد للتباحث معه في القضايا المصيرية التي تعصف بالأمة، ولما كان المسؤول مسافراً للمشاركة في نشاطات أحد المؤتمرات التي دُعي إليها، اكتفى بلقاء النائب الذي أخبره أن لا فرصة أمامه لمقابلة السيد رئيس التحرير الذي يستشيط غضباً؛ لأن الدعوة وصلت إلى رئيس قسمه، واعتبر الأمر إهانة شخصية له، وأنه حاول عبثاً أن يتصل بالقائمين على المؤتمر ليرسلوا له دعوة أخرى، بعد شعوره بالخيبة لفشل المؤامرة التي حاك خيوطها في مكتبه بمعاونة السكرتيرة لمنع رئيس قسم الدراسات من السفر.

وبعد يومين كاملين أمضاهما صاحبنا في غرفة موصدة، مكتفياً بالضروري من الغذاء والماء، وهو يفرك يديه ببعضهما، يحاول عصر رأسه والإمساك بفكرة مقالته الأولى التي ستكون طريقه إلى مجد الصحافة يدخله من الباب الواسع، كما ستجعل منه إنساناً مشهوراً وشخصاً مهماً، وتضع اسمه بجانب كبار الكتاب.

عندما أدرك أن وحي الكتابة قد أشفق عليه، وأنه قد حانت ساعة الصفر، أخذ يبحث في زوايا المنزل عن القرطاس والقلم، وبعد جهد مرير وجد القلم، وعبثاً حاول العثور على القرطاس، وحين فقد الأمل من هذا البحث المضني الذي استغرق ساعتين كاملتين، بعثر خلالهما محتويات غرف المنزل، عندما استدرك أنه لم يكن في يوم بحاجة إلى القرطاس، التفت إلى دفاتر شقيقته مريم، وكانت ما زالت طالبة ابتدائية، التقط أحد هذه الدفاتر وبدأ مشواره مع الكتابة إلى أن ملأ صفحات الدفتر الأربعين بمقالته العظيمة التي تناولت خطاباً سياسياً كان قد ألقاه في حينه أحد القادة السياسيين.

استلَّ صاحبنا القلم بيده اليمنى، وأحكم قبضته اليسرى على الدفتر المسكين وراح يشيد ويمتدح خطاب القائد الملهم مبتدئاً مقالته على النحو التالي:

قال الأخ القائد في خطابه التاريخي الذي ألقاه منذ يومين بحضور عدد كبير من ممثلي الأحزاب وحركات التحرر الصديقة، وحشد غفير من جماهير شعبنا، ثم فتح مزدوجاً ونقل بأمانة تامة الجزء الأول من خطاب القائد، فملأ ثماني صفحات كاملة، وتبعاً لأصول الكتابة الصحفية أغلق المزدوج في المقطع الأول.

وفي مستهل الصفحة التاسعة كتب صاحبنا هذه العبارة الصغيرة، ويضيف القائد الكبير، ثم فتح مزدوجاً مرة أخرى ونقل حرفياً الجزء الثاني من خطاب القائد فغطى عشر صفحات كاملة، عندها أطلق زفرة تطايرت من شدتها الأوراق أمامه، ومنح نفسه قسطاً من الراحة شرب خلالها سبعة فناجين من القهوة بالتمام والكمال، وعندما طلب المزيد بإلحاح تشوبه العصبية، هرعت شقيقته مريم إلى الجيران تستجدي بعض البن للمفكر العظيم.

بعد أن انتهى من تدخين علبة سجائر كاملة من النوع الرخيص امتصها حتى الفلتر، مسح جبهته المتعرقة واستأنف حربه الشرسة مع المقالة.

في مطلع الصفحة الثامنة عشرة تابع الصحفي الجليل ما قد بدأه وكتب: وفي مجال آخر تعرض القائد المقاتل لقضية الصراع العربي - الإسرائيلي، بما يؤكد استمرار حزبه في خوض غمار الكفاح المسلح، ثم فتح مزدوجاً وأورد مقاطع كاملة مطولة من خطاب القائد الفذ حتى وصل إلى آخر سطر من الصفحة الأربعين من دفتر أخته مريم، كان خلالها قد حرق نصف علبة السجائر التي أرسل أخته لشرائها وابتلع أربع حبات من مسكن الألم للسيطرة على مشاعره الجياشة التي أجّجتها كلمات القائد الحماسية ثم أغلق المزدوج، وبطح اسمه تحت المقالة وسمح لنفسه أن يضع تحت الاسم إشارة تقنية "24 أسود".

بعد أن أتم إنجاز هذه الخبطة الصحفية أطلق صفرتين متواصلتين، وضم الدفتر إلى صدره كما تضم الأم البكر وليدها، وارتمى متهالكاً فوق الكنبة مباعداً ما بين رجليه، تاركاً العنان لخياله يصور له عالم الأضواء والشهرة.

ثم استدعى زوجته وأولاده الصغار، وبصوت خطابي تغلب عليه الجدية المصطنعة طلب من زوجته أن تشرف من الآن فصاعداً على شؤون المنزل والأولاد، وأن يتم تحديد زيارات الأقارب والأصدقاء بناء على مواعيد مسبقة، وأن تطلب من الجيران التزام أقصى درجات الهدوء والسكينة، وطلب من أطفاله عدم تشغيل التليفزيون والمذياع إلا بناء على تعليمات منه وذلك فقط للاستماع إلى نشرات الأخبار التي بات من الضروري أن يعتاد على الاستماع إليها من الآن فصاعداً لمتابعة ما يجري من تطورات على الساحة الدولية، وأن... وأن..؛ لأنه منصرف تماماً منذ هذه اللحظة إلى الكتابة في القضايا المصيرية الكبرى، والتي لا بد من أن يدلي بدلوه فيها بعد أن لاحظ أن زملاءه من كبار الكتاب والمفكرين لم تسعفهم قدراتهم الذهنية للإلمام بكافة جوانبها، وطلب من ابنه الكبير أن يحضر له كمية كبيرة من الأوراق البيضاء وعدداً من الأقلام كالتي يستخدمها أقرانه.

فصدق المساكين ما سمعوه وبالغت الزوجة في تطبيق تعليمات زوجها الكاتب الجاد المنصرف لمعالجة القضايا الشائكة، وتحول المنزل إلى دير مهجور، صمت مطبق، زوار قليلون يتناقصون يوماً بعد يوم، وصاحبنا المفكر عابس الوجه مقل في الكلام وكثير التدخين، تهاجمه نوبات من السعال الشديد بين الحين والآخر، يضع يده اليسرى أعلى جبهته على طريقة القادة والمفكرين، وفي يده اليمنى قلمه وأمامه أكوام من الدفاتر والورق تنتظر الإشادة والمدح بالخطيب، لقادة بدأ صاحبنا يتابع تحركاتهم ومهرجاناتهم حتى لا تفوته واحدة.

لعلّ الفرق الوحيد بين صاحبنا الذي كتب ذات يوم على دفتر أخته مريم وبين العشرات من أمثاله، أنه أمين ونزيه في إبداعاته، يضع الكلام الذي ليس له بين مزدوجين، فيما يتركه الآخرون حراً طليقاً وينسبونه لأنفسهم ولا يخجلون.

أيها الكَتبة.. مَن كان منكم بلا دفاتر مريم فليرجم صاحبنا بقلم.




ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

قرية "إجزم" الفلسطينية بينَ حكاياتِ جَدّتي العجوز وواقعِها الجغرافي والاجتماعي

$
0
0
بلسانِ كاتبٍ قرويٍّ مُتَعَطّشٍ لقريتهِ، سأبوحُ لكم بأسرارٍ ليليّةٍ عن قريتي الصغيرة، تلك القرية التي لملمتُ معلوماتي الوليدة عنها من جَدّتي العجوز، وذلك بِحُكْمِ مُزَاملتي لها سنواتٍ طويلة، في غرفتها المشيّدة من الطينِ واللَّبِن في قيعان بيتنا المتآكل.

هناك، وحيث نشأَتْ صداقتي الغريبة بيني وبين جَدّتي، راحت جدتي تقصّ على مسامعي وعلى وقعِ حبّاتِ المطر حكايتَها مع قرية إجزم في قضاء حيفا في فلسطين المحتلّة، ورحلتها المريرة التي أجبرَتها على مغادرة إجزم إثرَ إعلان قيام ما تُسمّى دولة إسرائيل عام ألفٍ وتسعمائةٍ وثمانيةٍ وأربعين.

كانت تجاعيدُ وجهِها آنذاك تَشِي بكل شيء / تَشي بالندم حيناً وبالشوق حيناً وبالفخَارِ أحياناً أخرى..
ليس هذا فحسب، بل كانت تلك التجاعيد مصدرَ معلوماتي الوحيد عن تلك الأرض المقدّسة، بسبب ندرة وسائل التواصل الاجتماعي.

كانت تُحدّثني عن إجزم وجمالها الفلسطيني وعاداتها وتقاليدها، وكانت جدتي الأمّيّة تبدو وكأنّها مؤرّخٌ مخضرمٌ أثناء سردِها لتفاصيل التاريخ الجزماوي ومنعطفاته المهمّة، فسنواتُ الفُرقةِ المديدة لم تمحُ من ذاكرتها حتى عَرَصاتِ بيتِنا هناك / نعم بيتنا / أقولُها كما كانت تقولُها جدّتي / بيتنا العامر بسنديانات الليمون والبرتقال / بيتنا الذي أحببتُه دون أن أراه / بيتنا الذي يسخرُ مني نُزَلائي حينما أذكرُ أمامهم أملي بالعودة إليه بعد كل هذه السنوات المتعاقبة، وكأنّ أشجار الليمون لم تيبس بعد، بل وكأنّها أقسمَت ألا تموتَ قبلَ معانقتها لِفُؤوسنا التي ستقلبُ تُربَتَها رأساً على عَقِب.

حَفِظتُ كل شيء عن إجزم من حكايات جدتي العجوز، واليوم وبعد أن نشأنا تلك النشأة، وصرنا إلى ما صرنا إليه، دخلتُ إلى أسواق الإنترنت لِجَلبِ معلوماتٍ عن قريتي المحتلّة، ولمعرفة أصلي الذي يحاول الصهاينة اليوم طمسه بشتّى الوسائل، وإدخاله في بوتقة النسيان، لكنّ المُدهشَ أنّ جميعَ المعلومات التي طالَعتني في الإنترنت عن قرية إجزم، هي ذاتها التي ذكَرَتها لي جدتي في حجرة اللّبِنِ قبل عشرين سنة وأكثر، وقبلَ أن يجتاح الإنترنت منازلنا وعقولنا.

علمتُ عندها أنّ جدّتي كانت صادقةً في كل ما قالته لنا، حتى في تلك القصّة التي تَلَتْها على مسامعنا والتي رابَنا حولها الشك والظن لِغَرابَتِها ربّما، أو لأنّها حملَت بين سطورِها حكايةَ الحُبّ الحقيقي الذي ينشأ بين الزوجة وزوجها.

فكثيراً ما كانت جدتي تقول لنا إنه وفي يوم النكبة، وحينَ بدأ الطيران المساند للصهاينة بتنفيذ مهامه العدوانية، هرعَ جميع أهالي إجزم والقرى المجاورة إلى الهروب بحثاً عن الأمان ذاته الذي بحثنا عنه اليوم، وأثناء عملية الزحف والرحيل التاريخية، أُصِيبَ جدّي الهَرِم بشظايا حادة نتيجة الطيران، الأمر الذي أدّى إلى حُدوثِ فُتقٍ كبيرٍ في بطنه عطّلَهُ عن الجري، نتيجة النزف الحاد والألم الشديد، فحملته جدتي على كتفيها حتى استظلّت بشجرةٍ كانت تعتقد أنها شجرةُ الأمان المنتظَر، ولأنها أيقنت أنّ رحلتها ستدوم طويلاً فقد بحثَت عن شيء ما يُوقِف نزيف جدي ويلتئم به الفتق.

فلم تجد وسيلةً إلا أنّها أخرجَت من حقيبتها المتآكلة خيطاً وإبرةً طويلة، وبدأت تُحِيكُ الجرحَ كما الخيّاط يُحِيك الملابس، وبقدرة الله عاد الأمر إلى السيطرة حتى وصلوا إلى أقرب مركز طبي للإسعافات الأوليةّ، وتمّ تقديم العلاج.

كنتُ أظنّها تبالغ، ولكني علمتُ فيما بعد أنّ كلامها دقيق، وليسَ من العصبيّة القبليّة بمكان أن أنعتَ نساءَ إجزم بالنساء الحرائر اللواتي حاولنَ أن يرسمنَ خريطة فلسطين في عقول أحفادهنّ كي لا تحثوها رياح الأزمان والنسيان.

وكثيراً ما كانت جدتي تذكّرني بإجزم بوسائل متعددة، تارةً بالسرد المباشر، وتارة باستخدام عنصر النادرة والنكتة، ووصلَ بها الأمر إلى الحداء، فهي كانت تربط اسمي باسم إجزم حتى في أهازيجها التي كانت تبدأ ليلاً، وبصوتٍ فلسطينيٍ ليس له مثيل، ومَطلَعُ أهزوجتها ما زلتُ أحفظه حتى اليوم، وما زال ميسم الدلعونة منقوشاً في أذني كالنقش على الحجر، فأجمِلْ بالمُنشِدِ حين ينشدُ لي ليلاً: عبد يا عبد يابو الجاكيتة / نازل على إجزم بالبوسكليتة، وإنت يا وردة في صدر بيتي، كل يوم الصبح ييجو يشمونا..
ليتني أستطيع تلقينها لأبنائي اليوم، ولكنّني لن أستطيع، لأنّ من رأى ليس كمن سمع.

هكذا عرفتُ قريتي وهكذا نشأتْ إجزم في مخيّلتي، قريةً ذات عقليّةٍ عنيدة، يُعرَفُ قاطنوها بالحِدّةِ وصلابة الرأي، والتّعنّتِ في المواقف، تسكنها قبائل فلسطينية لها ما لها من بساطة العيش، ويشرف عليها وادٍ جميل تسمّيه جدتي وادي الحَمَام ووادٍ آخر هو وادي المغارة، وهي قرية غنية بالينابيع والآبار وبأشجار الليمون والزيتون والتين، وتسكنها عائلاتُ عديدة متحزّبة، منها عائلة زيدان وماضي والعزايزة وعبد الهادي والطوافشة الذين أنتمي إليهم، وأبو حمدة وأبو شقير وأبو زرد وأبو خليفة والنبهاني وغيرها.

ولعلّ جدتي كانت مُنصِفةً إلى حَدٍّ بعيد حينَ تحلّت بالموضوعية والنزاهة التي يفتقدها المؤرّخون اليوم، فكانت تذكرُ لي سلبيّات أهالي إجزم، والمآخذ التي كانت تؤخذ عليهم، ولم تكتفِ فقط بذكر المحاسن والجوانب المُشرقة، فمن عاداتهم التي لا يُحسَدون عليها تعاملُهم مع الألقاب؛ إذ خصّصوا لكل عائلة لقباً تُعرَف به، وقد وصلَ بهم الأمر إلى الاعتراف باللقب رسميّاً لِيحلَّ مكان الاسم الصريح، فلا يُعرَف الرجل من أيّة قبيلة هو إذا لم يذكر لقبه الذي يتداوله أهالي إجزم.

وتحيطُ بإجزم قرى عديدة منها قرية دالية الكرمل وجبع وعين غزال والمزار، ولعلّ من أجمل ما ذكرَته جدتي لي هو التنافس البريء بين أهالي إجزم وأهالي عين غزال، إنه تنافسٌ ثمينٌ له وقعٌ مُدَوٍّ ومليءٌ بالمحبّة والترابط، وما يزال هذا التنافس حتى يومنا هذا، فتلك الهفواتُ الجميلة والمُضْحِكَة ما تزال تقفز بين الفَينة والفَينة إلى المجالس التي يلتقي فيها الجزماوي والغزلاوي، وجهاً لوجه؛ ليقدّموا ضرباً مميّزاً من ضروب حُسنِ الجوار.

تلك هي إجزم التي عرفتُها مرّتين، مرّةً في شتاء جدتي هناك على سريرِها الحديديّ الخشن، ومرّةً على بوّابة الإنترنت.

تُرَى هل سأعرِفُها ثالثةً حينَ يُمهَرُ رملُها بأقدام العودة؟!


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حكومة المغرب.. من الانفصال إلى الانفصام

$
0
0
سكان الأرياف لا يُريدون الانفصال، ولا مطلب من مطالبهم تحدث عن "الاستقلال" أو ما شابه ذلك. فالانفصال الذي تتحدث عنه حكومة سعد الدين العثماني تحوّل إلى "انفصام" في تركيبة الدولة، ولعل الطبيب النفسي رئيس الحكومة أدرى منا بهذا المصطلح العلمي - الطبي.

الحكومة بقيادة حزب "العدالة والتنمية" عمرت بياناتها وبلاغتها بكلمات "الانفصال والاستقلال" واتهمت المتظاهرين بـ"الانفصالية"، وبيانات جماعة "العدل والإحسان" تتحدث عن "العسكر" في الريف وتطالب بسحبه، قارئ بلاغ الحزب الأول سيظن أن في بلاد المغرب "حرباً وصلت مداها إلى حدّ توغل الخصم" والقارئ لبيان التنظيم الثاني، سيعتقد أن "رابعة العدوية" سقطت فجأة في المغرب.

المعادلة في مدينة الحسيمة شمال البلاد جد بسيطة لا تحتاج إلى جمع أو تحويل أو حسابات، لقد طالب المحتجون بالعدالة الاجتماعية والتطبيب والتعليم وحقوق العيش الأساسية، وإذا كانت تعني هذه المطالب لدى الحكومة "الانفصال" فلا بأس إذن من الانفصال، فكلنا "منفصلون".

رئيس الحكومة المعارض سابقاً، الذي طالب سلفاً بحكم ذاتي لـ"أهل الريف"، هو ذاته الذي اتهم مواطنين مغاربة بـ"النزعة الانفصالية".

تقول مجلة "التايم" الأميركية: إن حجم انتقال البشر في العالم المعاصر، ورغم كل مظاهر العولمة، لا يتعدى نسبة العشرة بالمائة، وإن أكثر من تسعين في المائة من سكان العالم يبقون حتى نهاية حياتهم في بلدانهم التي وُلدوا فيها، وعلى ذلك ترى "التايم" أن الصراعات المزمنة في منطقة كالشرق الأوسط لن تجد لها حلاً إلا على الأرض.

وتذهب مجلة "التايم" فيما وصفته بأنه أفكار جديدة لتغيير العالم.. فتقول: إنه يجب أن تستقل دارفور، ويستقل جنوب السودان.. ويصبح كل جزء في السودان يرغب في الاستقلال وطناً ودولة مستقلة، وهذا أفضل من استمرار الصراع وفقدان البشر والمال والأمن. وبالمنطق ذاته ترى "التايم" استقلال الأكراد في العراق شمالاً واستقلال الشيعة جنوباً..
إنه منطق واضح تماماً.. تغيير الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، ورسم خرائط جديدة على أساس الهوية، فكل دين على حدة، وكل مذهب بذاته، وكل قومية دولة.

والتبرير الأخلاقي لذلك أن هذه الشعوب تعبت من الصراع والصدام، وأنهم باقون في أماكنهم وباقون على مواقفهم، ومن ثم باقون في مأساتهم، ولا مخرج لتلك المآسي إلا بالاستقلال التام لكل من يرغب في الاستقلال وإنهاء الدولة في الشرق الأوسط.

وقد رأى محللون وسياسيون أميركيون وأجانب أن عناوين مجلة "التايم" هي خط عريض للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط.

مَن الذي يؤيد فكرة الانفصال؟ العثماني رئيس الحكومة حالياً أم أولئك السكان في ريف البلاد المضطهدون عنوة؟ ومَن يسعى إلى تفكيك الأوطان وجعلها دويلات صغيرة تأتمر بأمر المرشد، وتسعى إلى خلافة واسعة.. تؤمن بالجماعة لا بالوطن؟ الحركات الاحتجاجية في الريف أم أبجديات فكر ومرجعية حزب العدالة والتنمية المستمدة من "التنظيم الدولي للإخوان المسلمين؟" بحسب ما جاء عن لسان الأمين العام للحزب عبد الإله بنكيران وما نظر له مرشدهم الروحي أحمد الريسوني.

إذا كان محمد السادس ومعاونوه في القصر ظنوا سلفاً أن بالإسلاميين سيمتصون غضب الشارع وبعملية دمجهم في مؤسسات الدولة قد يمتص غضبهم واستفزازاتهم أيضاً، فهم مخطئون جداً؛ لأن في نهاية المطاف ليس لدى الإخوان أيّ وجه من الوجوه، فيلتوي تنظيمهم كما تلتوي الأفعى الأسطورية حينما تستعد للانقضاض على فريستها، ويتحولون ويتناقضون كما تتناقض بيانات جماعة العدل والإحسان مع بيانات حزب العدالة والتنمية وبيانات حركة التوحيد والإصلاح مع بيانات شبيبة حزب العدالة والتنمية وبيانات شبيبة حزب العدالة والتنمية مع نقابات حزب العدالة والتنمية، فيبقى صراع العالم الإسلامي الشهير على نحو "الشريعة ضد الشريعة" و"الإخوان ضد الإخوان" ثم "النظام ضد النظام".

ويبدو أن زمننا وصراعه السياسي الخاسر الوحيد منه هم الشعوب المضطهدة التي تتزاحم في طوابير طويلة للحصول على التطبيب، ويتكدس أبناؤهم من الأطفال والطلبة والتلاميذ في طاولات خشبية مهترئة تتساقط من فوق رؤوسهم قطرات الندى، ويكتوي الناس بنار الأسعار والضرائب، بينما يلهو رجالات الدولة بالأموال عبر شركات "الأوفشور" في الجنات الضريبية.




ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

الحرب الخفية بين الزواج والطموح

$
0
0
تختلطُ الألفاظ المعلنة في مناصرة فكرتَي الزواج والطموح، فمثلاً قد يقال: "إن مآل الفتاة لبيت الزوجية"، أو "إن الزواجَ سترةٌ للمرأة ونهاية لمطافٍ طويل لها"، أو يُصدح بالقول: "إن الزواجَ دافن للطموحات وقاتل للسيدات"، أو "إن المرأة الطموحة هي المرأة التي لا تضيق في تفكيرها بقضية الزواج".

وغيرها من المفردات التي لم تُنتج إلا حرباً ضروساً بينَ مفهومي الزواج والطموح، بين العلم والافتتان بالزواج، بينَ العمل والتربية، بينَ كل المتناقضات في فهمنا ووعينا تجاه القضايا والمفاهيم العظيمة لنا ولمجتمعاتنا.

في مفارقات عصية على فهمي تتصارع المقالات والأحاديث في الدفاع عن أحدِ الأمرين دون الآخر، حتى بات الأمر حرباً غير معلنة بينَ أصحاب القضيتين، والسؤال هنا: لمَ يعمدُ هؤلاء لكل هذا الصخب فيما يريدون؟ ولمَ يصروّن على إجبار المجتمع للسير في أحدِ السياقين دون الآخر؟ هل من الممكن أن يُخلق النسيج المجتمعي بالزواج وحده؟ أو هل من الممكن أن يتعالى البنيان للأمة بالطموح وحده؟

في محاولة للإجابة على كل هذا أكتب ما يعنيه كلا المعنين لديَّ:

- الزواج ركنُ القلب القويم، وغايةٌ الاستقرار الداخلي والعاطفي للإنسان، وهو الدافع لتكوين النواة الأولى للمجتمع (الطامح) وهي الأسرة.

- الزواج هو السلسلة المتاحة لتمام دورة هذا الكون وإثماره، فتتويج العلاقات بالزواج هو تتويج صحي ومُنتح لعلاقات صحية ونتائج أكثر صحية، من علاقات الصالونات والفساد المستورد.

- الزواج ليس هو الطموح، ولكنه غايةٌ سامية، شريطة الهيئة السليمة والمعطيات الصحية له.

- أما الطموح فهو الحلقة المغذية لحاجة الوجود الإنساني، فالدافع للوجود لدى أي إنسان هو الشغف والغاية في تحقيق الحلم والوصول لقمة الطموحات.

- الطموح هو الثمرةُ التي نرعاها لتكبر فنقطفها فنعزز حاجاتنا واحتياجاتنا في تحقيق ذواتنا والصعود لأعلى هرم ماسلو.

- وفي الطموح ضمان لتنافسية المجتمع وتلاقي أفكاره وإنتاجيته التعليمية والتربوية والعلمية وغيرها من الأصعدة الضامنة لصحة المجتمع.

هذا ما ملكته في تصوري عن كلا المفهومين اللذين يتناحران بيدِ مناصريهما، لم أستطِع أن أرى المجتمع بلا أحدهما، فأي شكل سيأخذه المجتمع دونَ عقد الزواجِ القويم، وأي ركن سيستند إليه المجتمع متعباً بعيداً عن طموح وعزيمةِ أبنائه؟

المشكلة في كل هذا الصراع هو التفضيل والرغبة بأحد المفهومين دون الآخر، كمن يقول: "أيهما أطول الشجر أم لون السماء؟"؛ لذا فإن الحل -برؤيتي- يكمن في الوعي تجاه هاتين القضيتين، وعدم النداء بأحدهما دون الآخر، أو إحكام القوانين لتعميم ما وافقَ ظروفنا دون النظر في حاجات المجتمع والقلب والغايات، فكم من أنثى رأت الزواجَ استقرارها وعطاءها على المستوى التربوي والمهاراتي؟ فتزوجتْ وأحسنَت البناء الأسري، واستقامت الغايةُ في فعلها وعطائها، وكم من أنثى رأتْ في غاياتها وأحلامها ضرورة أَولى من ضرورات الزواج وغاياته، فاستقامتْ خياراتها في تحقيق طموحها، وأثمرت به عطاءً وجمالاً، ثم أكملتْ تمتم قلبها وروحها بالزواج والحب، وكم من أنثى فاقت قدرتها كل التوقعات فتزوجتْ، وما استغنتْ عن طموحها، فكانت الأم والطموحةَ الناجحة والسيدة والمربية.

في كلٍ حكمة وظرف، وما ينطبق على أحدٍ ليس بالضرورةِ أن يثمرَ مع آخر، فلكل ظرفه وضرورته، ولكل عمل وقتيته وضبطه، فلا نحابي ولا نصارع في تفضيل ما نرغبه تعميماً في المجتمع، بل علينا إنجاز الإدراك في المجتمع حاجةً وضرورة والتركيز في الوقتية والحاجات النفسية والروحية أيضاً، لتمام الغاية لكل مفهوم ومعنى، فلا يغلب الطموح الزواج، ولا يتفسخُ معنى الطموح لصالح الزواج وهيمنته.





ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مكاسب السيسي وخسائر المعارضة في سيناء

$
0
0
عداد القتل لا يتوقف في سيناء، فمنذ انقلاب الثالث من يوليو/تموز وما تبعه من أعمال قمعية بحق أهالي سيناء شملت القتل والتهجير وهدم البيوت وتوسيع حالة إجلاء الأهالي من على حدود غزة إلى الداخل، هذه الأوضاع جعلت الحالة الأمنية في سيناء تسير من سيئ إلى أسوأ كل يوم.

فما من يوم يمرّ إلا وتأتي الأخبار من سيناء عن تفجير هنا أو تصفية هناك، وفي المقابل يعاني الأهالي من دائرة العنف والعنف المقابل.

وبعد مرور أربع سنوات من العنف المخيّم على سيناء، وبعد أن تكبّد خسائر كبيرة في الأفراد والمعدات، لجأ النظام المصري إلى فكرته التي راجت أيام الثورة، والتي استطاع بها قمع الثوار، وهي فكرة استخدام المواطنين الشرفاء، والتي تعني في سيناء استخدام ورقة القبائل بإقحامها في أتون المواجهة المستمرة، ما يشير إلى فشل النظام في تحقيق انتصار حاسم في مواجهة تنظيم الدولة.

فالتصعيد المستمر منذ ثلاثة أسابيع بين مجموعة ليست بقليلة من عائلات قبيلة الترابين، التي انضمت إليها أخيراً قبيلة السواركة، التي تمثل أكبر قبائل سيناء، والمدعومة من جهات في الدولة عبر شخصيات في القبيلة، يطرح أسئلة عدة عن توقيته ومعادلات المكسب والخسارة فيه، ولمصلحة من يتجه النظام إلى إشعال نار الحرب الأهلية في سيناء.

ووفق المعطيات القائمة، فإن المكسب الأكبر سيكون من نصيب النظام المصري وأجهزته الأمنية، التي مكّنها هذا التصعيد العسكري بين القبائل والتنظيم من التقاط أنفاسها في سيناء؛ إذ إنه وبالتزامن مع المواجهة القائمة بين التنظيم والقبيلة، تناقصت بشكل واضح نسبة الهجمات التي تتعرض لها قوات الأمن مقارنة بالأسابيع التي سبقت التصعيد.

وتأتي إسرائيل الرابح الثاني من هذا السيناريو، التي يهمّها أن تبقى دائرة النار في هذه البقعة حتى لا تمتدّ إلى طرف ثوبها، انتظاراً لوعود السيسي أمام الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أثناء زيارته للبيت الأبيض، فيما يسمى بصفقة القرن التي يصفها المحللون بأنها الوطن البديل للفلسطينيين في سيناء، بعد إتمام السيسي المرحلة الأولى منها بتهجير أهالي سيناء من الشريط الحدودي في مرحلته الأولى، والذي تبعه بمراحل وصلت إلى حدود مدينة رفح؛ حيث العمل على قدم وساق للوصول إلى العريش مستهدف الخطة.

وإن كانت المعادلة تشمل أطرافاً متعددة، فإن الخطة ليست سهلة التنفيذ؛ فالطرف الفلسطيني الحاضر بقوة في المعادلة لن يكون خصماً سهلاً يرضخ لمخرجات الخطة، لكن في المقابل فإن السيسي يتمم مهمته انتظاراً لإنفاذ الوعد الذي اتفق عليه ترامب مع الأمير الخليجي الشاب الطامح للعرش، والذي يطمع هو الآخر في تقاسم سيناء مع الصهاينة في تلك الصفقة، فإن كان الشمال لكم فجنوب سيناء مطمع الأمير الشاب لما في الجنوب من معادن وبترول وسياحة، فما ستدفعه مملكته سيعوض بالتقسيط من مخرجات الجنوب.

لا شك أننا في فاصلة تاريخية يتم تشكيل المنطقة فيها من جديد، والكل يسعى لمناطق نفوذ في ظل هذه المتغيرات التي تضرب العالم.

لكن الحقيقة الأمرّ من المذكور هي النظرة القاصرة للأوضاع من قِبل مَن يديرون مشهد المعارضة المنهكين منذ ثلاث سنوات بحثاً عن أنفسهم وعن الاصطفاف المنشود في بيانات تصاغ بنفس الأحرف ونفس المداد وتدور حول نفس الأشخاص، لكن الحقيقة الغائبة عمّن يقودون المشهد أن العالم يتحرك وبسرعة، ولا يأبه بمن لا يعرف طريقه ويمتلك أدوات تنفيذها.

فالمشهد يتعقد أكثر فأكثر بتلك الوعود التي يضربها السيسي على نفسه، وتكون مراكز قانونية وسياسية على الواقع المصري، وهو ما يعني بالنتيجة أن احتمال الجلوس مع تلك المعارضة والسماع لها ضرب من الخيال في ظل عالم لا يعرف سوى لغة المصالح ولا عزاء للمبادئ.





ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يا ولدي.. أنت نطفة مهرّبة!

$
0
0
لا يدرك المحتل -يا ولدي- أن الفلسطيني يحب الحياة، وأنه لا يفقد الأمل مهما أحاطت به عتمة الزنزانة وأطبقت القيود أنيابها على عنقه، لا يمكن لهذا المحتل أن يفهم أن الفلسطيني يموت ليحيا بكرامة، صحيح أن الموت والحياة ضدان لا يلتقيان في أعراف الناس، إلا أن حكايتهما في أعراف الفلسطينيين مختلفة، فلدى الفلسطيني، الحياة التي تستحق الحياة تبدأ من التضحية وبذل الروح بسخاء.

يعتقد السجان -يا ولدي- أن باحتجازه لجسد الفلسطيني أسيراً في سجنه، يحتجز معه روحه وأمله في الحياة، ويعتقد أنه بذلك قد ألحق الهزيمة بكل المعاني الجميلة داخل نفسه، إلا أن الأسير الذي وصل الأسر؛ لأنه صاحب رسالة وصاحب هدف عظيم لا ينضب نبع الأمل داخله.

حاول السجان -يا ولدي- قتل والدك الأسير بكافة الوسائل التي قد تخطر على بال بشر، وتلك التي لا تخطر على بال إلا مَن هم أتباع الشياطين، فلم يترك معه معارك جسدية ولا نفسية، وضغط عليه بكل الوسائل التي تجهض جبلاً، فكيف بأسير مكبل مرهق؟ إلا أن والدك خرج بعد ذلك كله منتصراً.

بغباء شديد حكم المحتل على والدك بالسجن عشرة مؤبدات، أي أن مجموع السنوات المحكوم عليه أن يقضيها في السجن يزيد عن معدل حياة الإنسان (أطال الله في عمر والدك وأعمار جميع الأسرى).

يربطني بوالدك -يا بني- عقد وشهر من الزواج، ستستغرب، فهذه فترة قصيرة جداً لا تكفي لأن ترهن امرأة ما زالت فتية حياتها مع زوج لا أمل لها في الحياة معه، ولكن الوفاء -يا ولدي- سمة تكاد تلتصق بالمرأة الفلسطينية، فمهما استجدت عليها من ظروف قاتمة تكاد تخنق كل أمل لها في حياة جميلة، إلا أنها تبقى على عهدها مع فارسها.

أرسل لي والدك رسالة يخبرني عن طريقة ابتكرها الأسرى ليتمكنوا من الإنجاب رغم الزنزانة والقيود وعتمة السجن وإجراءات السجان المشددة، إنها النطف المهربة، وعرض عليَّ في رسالته تلك أن أهيئ نفسي للإنجاب إن كنت أرغب عبر تلك الطريقة، وطلب مني أن أفكر بالموضوع، وأستشير طبيباً ثم أخبره بقراري، ستسألني يا ولدي: ما هي النطف المهربة؟ وما ستفعل لرجل أسير؟ حسناً سأخبرك بكل شيء.

لا تستطيع المرأة الإنجاب من زوج يقبع في الأسر، يبعد عنها مسافات، وتفصله عنها جدران وقيود وحواجز، إذن كما حكم المحتل على والدك بمؤبدات من السجن، فقد حكم عليَّ أنا أيضاً بمؤبدات من الإقصاء عن مشاعر الأمومة التي تتأصل في نفسي، فكم أتمنى جنيناً يتحرك داخل أحشائي، ألده، وأحبه، وأرضعه، وأعتني به، وأضمه إلى صدري، وأتركه لينام في حجري، وتكون أول كلمة يتلفظ بها هي ماما، بمقاييس المحتل وأحكامه -يا ولدي- تبعد بيني وبين أمومتي مسافات كتلك التي تفصل القمر عن الأرض، إذن لن يكون لديّ صغير يشبع نهمي الأمومي ما حييت، وإذا كنت متمسكة بخيار الأمومة، فلا بد لي من الطلاق من والدك، وهو ما لم أكن مستعدة له.

وبدأتُ رحلة الإعداد مع الطبيب، وتحضير البويضات الأنثوية التي سُحبت من بطني، وحُفظت في أنبوب مخبري. وفي موعد الزيارة، كان والدك قد أعدَّ النطف التي يرغب بإرسالها ليتم تلقيح البويضات بها، وبما أنه لا أنابيب مخبرية في الزنزانة، ولا طبيب يحفظ النطف، فقد ابتكر الأسرى وسيلة تحفظها حية صالحة للإخصاب لأطول فترة ممكنة.

ومن داخل عتمة السجن، هربتك جدتك يا صغيري نطفة محفوظة داخل حبة تمر، أوصلتها إلى الطبيب، وتم التلقيح في الأنابيب، ثم تمت زراعة البويضات المخصبة داخل رحمي، وبعد ما يقارب شهوراً أربعة، شعرت بحياة جديدة تدب داخل أحشائي، طرت فرحاً، لم أصدق نفسي، ها أنا ذا سأغدو أماً رغم القيود والمؤبدات، ولن ينقطع اسم أبيك، فإنك هنا تحمل اسمه وتذكره وتُذكر الناس به.

قدمت إلى الدنيا يا ولدي، وبقدر حزننا على والدك، حل الفرح على قلوب الجميع، حتى جدتك التي كادت تفقد البصر لشدة بكائها على والدك، تبدل حالها، بعثت الأمل فينا جميعاً، سمَّاك والدك أنيساً؛ لأنك قدمت لتؤنس قلوبنا، أما المحتل، فقد جُنَّ جنونه لميلادك يا قرة عيني، فكيف لأسير خلف جدران وقيود أن يعود للحياة فيتناسل ويجدد الأمل؟ وهذا لم يكن أول نصر يحققه الأسرى على السجان.

احفظ كلماتي هذه يا صغيري، أنت الآن الرجل الصغير الذي يسند ظهورنا ويجبر قلوبنا، ويقوم مقام والده حتى ينظر الله في أمره ويعود إلينا شامخ الرأس من أسره، فكن على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقك، وأنا أعلم تماماً أنك لها.





ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوم أمطرت السماء ألماً

$
0
0
إلى مجهول حرصت كل الحرص على إبقاء اسمه سراً.. فقد كنتَ صديقي الذي لا يعلم عنه الكثيرون لم تجمعنا صورة واحدة، لم أستطِع رؤيتك كثيراً إلا أنك لم تغِب عني يوماً، ولكَ بقلبي مكان لم يصل له سواك.

وعلى الرغم من كل ما يحمله قلبي لك من مودة ولطف، فكنت جافاً قاسياً يا صديقي كسنين عجاف، تمنيت أن تعاملني يوماً كأخريات كنت تحسن معاملتهن، ولكنك ظللت تصبرني بأنني بقلبك ذات مكانة خاصة لم يصل إليها هذه أو تلك.

وصدقاً شعرت كثيراً رغم قسوتك أنني مميزة لديك، أما عن سعادتي فهي تتمثل في رؤيتك تتحدث، فدائماً ما كنت بليغ الكلام، حسن الصوت، فتراني أستمع إليك بنهم، بنظرة انبهار لا مثيل لها، فكنت في نظري الكمال في أبهى صوره على الرغم من جوزائيتك العنيفة.. فأنت متقلب المزاج لدرجة أرهقتني، فتشعرني تارةً بأنني مدللتك الواحدة والوحيدة... وتارة بأنني ليس بشيء بالنسبة لك.
وأنا بين هذه وتلك كالمعلقة.. لا أدري حقيقة ما تشعره تجاهي، هل أنا صديقتك المقربة أم مثلي كأخريات؟

سألتك ذات يوم عما كنت تتوقع أن يعتزل بعضنا البعض وأن يتوقف حديثنا، جاوبتني حينها بقساوة طبيعتك الجبلية أظنها "عادي.. الحياة ما بتقفش على أشخاص".

ونصحتني وقتها بأن أتوقع رحيل الجميع فهي سنة الحياة، وأخذت ترصد لي عدداً من أسماء أشخاص كانوا أقرب إليك من نفسك، وافترقتم الآن.

كم ترهقني صراحتك القاسية! فمنذ ذلك الحين أبيت أن أسأل مثل هذه الأسئلة حتى لا أسمع إجابات أخشى سماعها.

كم كنت مغروراً يا عزيزي.. فأبيت أن تخبرني عندما طال غيابنا أنك تفتقدني ولكنك أخبرتني وقتها بطريقة عرفتها وحدي، طريقة تملؤها الكبرياء والعجرفة، ففهمت حينها أنك افتقدتني.

لم تخبرني كم أنا عزيزة على قلبك، ولكنك أخبرتني أنني الشخص الوحيد الذي تهتم برأيه، فغرورك يمنعك أن تبوح لي بذلك، من جانبي واأسفاه على حالي، فكنت على النقيض تماماً فلم أستطِع أن أخفي ما أشعر به تجاهك، وأخبرتك على الفور كما افتقدك ببراءة طفل كنت أنت له طوق النجاة، لتجيبني حينها بابتسامة "سخيفة" لم أكن بحاجة لها، وتغير بعدها مجرى الحديث.

فانتظرتك أن تخبرني أنك أفتقدتني أيضاً.. كم كنت في أمَس الحاجة لسماع تلك الكلمات، فجعلت مني شخصاً راضياً بأقل الكلمات الحلوة منك.. فوالله كانت هي الحياة.. كل الحياة، وكنت أنت الحياة كل الحياة.. جعلت مني شخصاً قد يتخلى عن الدنيا إلا منك، فبت تستنزف من طاقتي حتى صرت مسخاً.. فلم أعد كسابق عهدي، وتمنيت أن أكرهك، وباءت محاولاتي بالفشل فزاد تعلقي بك، تعلقاً أشبه ما يكون بالمرض الذي ينهك الروح قبل الجسد.

أتتذكر يوم التقينا لأول مرة كم تملك منّي الخوف وكم هدّأت من روعي؟
وعن أول اتصال هاتفي دار بيننا؟ وأول محادثة كتابية، لعلك لم تذكر أياً منها، ولكنني أتذكر يا عزيزي أتذكر حتى أدق التفاصيل بيننا.

فلم أخفِ عليك سراً يوماً، فبت تعرفني وأعرفك أكثر من نفسي، إلا سراً واحداً يا صديقي لم أستطِع أن أبوح به يوماً، وحينما تملكتني الشجاعة أن أخبرك إياه.. "فات الميعاد" كما قالت أم كلثوم الذي طالما كرهت أنت فيها كبرياءها وقسوة قلبها الذي لم أكرهه فيك يوماً.

إنني لم أرَك يوماً صديقاً، بل رأيتك حبيباً، فمنذ أن وقعت عيني عليك وجدتك شخصاً مميزاً، ورأيت ما يجذبني نحوك بطريقة مبالغ بها، واكتفيت بصداقتنا، ولم يطل هذا كثيراً، فلم تعد تشبعني هذه الصداقة! فوقع قلبي في أسر حبك ولم يفلت منذ ذلك الحين، فأحببتك، حباً لو وُزع على الدنيا وما فيها لذاب أهل الأرض عشقاً، وحينما قررت أن أعترف لك بما تخفيه نفسي، أخبرتني يومها بخطبتك.

وكانت الصدمة الممزوجة بفرحة الصديق لصديقه وقهرة الحبيب الذي عشق سراً ولم يستطِع البوح بحبه يوماً.. عاتبت نفسي حينها كثيراً كم تأخرت! وشعرت أن السماء تكاد تبكي من شدة ما أصابني من الضيق وسيل من التساؤلات يتدفق ممزوجاً بدموع لا تجف.

ماذا لو كان يشعر هو الآخر، ولكنه خشي أن يعترف بحبه؟! ولكنني كنت أعلم في قرارة نفسي أنك لم تشعر بما أشعر به وأبيت أن أصدق.

أخبرتني صديقتي يوماً أن الندم على شيء لم يفُعل أصعب من الندم على ما فعلناه، لم أشعر بمعنى تلك الجملة سوى الآن.

تُرى ماذا سيحدث إذا اعترفت لك بحبي؟! أكانت ستنتهي ظنوني ويهدأ قلبي أم كنت أخشى الاعتراف لأنني أعلم حقيقة ما تشعره بأننا ليس إلا صديقين، فتملك الحياء منّي فلم أستطع البوح، فأضعتني وأضعتك.

أكتب لك هذه السطور متمنية لك حياة سعيدة مع مَن اخترت دوني، وأتمنى أن ترفق بها وتحنو عليها كما لم ترفق بي أو تحنو عليَّ يوماً.






ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

السيادة اللغوية المنتهكة

$
0
0
في الوقت الذي تحرص فيه الكثير من دول العالم التي تحترم سيادتها الوطنية وتعتز بثقافتها على إيلاء لغاتها الوطنية والرسمية المكانة التي تستحقها في كل المجالات، نجد أن دول شمال إفريقيا، وخصوصاً المغرب، تعيش حالة من اضطراب الهوية اللغوية المزمن، هذه الحالة سببها الرئيسي هو سنوات الاحتلال الفرنسي الطويلة التي رسخت الثقافة الفرونكوفونية واستعمال لغة موليير على حساب اللغة الرسمية لهذه الدول.

ورغم أن المغرب وغيره من دول شمال إفريقيا (الجزائر، تونس، موريتانيا) تحوي تراثاً لغوياً غنياً نتيجة للتنوع الإثني والثقافي، وهو ما توج مثلاً في المغرب بالتنصيص في دستور 2011 على كون اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد واللغة الأمازيغية لغة وطنية، إلا أن هذين اللغتين لا تتمتعان بالاهتمام الذي تستحقانه رغم كل ذلك.

وهكذا فإن "تغول" اللغة الفرنسية يبدو واضحاً في كل المجالات المهمة والحيوية في المغرب، كالتعليم والصحة والتجارة وعالم المال والأعمال ووسائل الإعلام التي يبدو وكأنها تعمل جاهدة على ترسيخ هذه اللغة في عموم المجتمع، وذلك على حساب اللغة العربية لغة البلاد الرسمية أو كذلك اللغة الأمازيغية والدارجة المغربية التي تعتبر اللغة الأم لأغلب المغاربة؛ حيث إنها مزيج من العربية والأمازيغية ولغات أجنبية أخرى وتعبّر عن تنوع أصول وأعراق المغاربة.

كما لا يجد الكثير من المسؤولين الحكوميين في المغرب حرجاً في إعطاء تصريحات لوسائل الإعلام، سواء داخل المغرب أو خارجه باللغة الفرنسية، في الوقت الذي يفاجئ فيه عدد من المسؤولين الأجانب وخصوصاً بعض السفراء في المغرب الجميع بحديثهم باللغة العربية كتعبير عن احترامهم للغة الوطنية للبلد الذي يستضيفهم.

ويبرر البعض ممن يدافعون عن التواجد الراسخ للغة موليير في المغرب هذا الارتباط الوثيق مع اللغة الفرنسية بضعف اللغة العربية، وما تعانيه من مشاكل بنيوية، خصوصاً أنها لم تعد لغة لإنتاج المفاهيم الفكرية والعلمية، لكن هذا التبرير هو في الواقع -وإن كان صحيحاً نسبياً- إلا أنه حجة على هؤلاء وليست لهم على اعتبار أن اللغة الإنكليزية هي اللغة الأكثر انتشاراً في العالم، وهي كذلك لغة البحث العلمي، كما أن أنصار الفرنكوفونية يتناسون أن اللغة العربية هي رابع أكثر لغة انتشاراً على مستوى العالم، وأن الكثير من التقارير تتوقع مستقبلاً مزدهراً لها، فيما يتناسى الفرونكوفونيون المغاربة أن اللغة الفرنسية تعيش تراجعاً كبيراً حتى داخل معاقلها.

إن الانتقاص من اللغة الرسمية للمغرب وباقي اللغات الوطنية والتركيز على اللغة الفرنسية لا يعد كذلك انفتاحاً، فرغم أن لا أحد يجادل في ضرورة تعلم اللغات الأجنبية سواء تعلق الأمر بالإنكليزية خصوصاً أو الفرنسية، إلا أن ذلك لا يعني أبداً تفضيل إحدى هذين اللغتين أو غيرهما على اللغة الوطنية والرسمية التي تعتبر اللسان الناطق باسم ثقافتنا وهويتنا الإسلامية العربية الأمازيغية السابقة على دخول الفرنسية للمغرب بقرون عديدة، وإنه مما لا شك فيه أن منح الفرنسية المكانة الأولى في المجتمع ستسهم في تكوين جيل متخاصم مع هويته ومنفصل عن ثقافته.

وهكذا فإننا لا يمكن إلا أن نؤكد أن ما يحصل منذ استقلال المغرب ليس سوى انتهاك للسيادة اللغوية المغربية، وهو الأمر الذي لا يقبل أي تبرير، فإلى متى ستظل السيادة اللغوية للمغرب ودول المغرب الكبير منتهكة؟ ومتى نعيد للغتين العربية والأمازيغية ما يستحقانه من اهتمام؟




ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

"الرئيس القرد" وجناية الأدعياء على الأوطان!

$
0
0
فترة حكم الدكتور محمد مرسي -فكَّ الله أسرَه- لمصر كشفت بوضوح عن النموذج المصري لنخب تدّعي الليبرالية والثقافة والإيمان بالديمقراطية، فيما الحقيقة أن كثيراً من هؤلاء، على امتداد بلداننا العربية الإسلامية، لا يرون الديمقراطية إلا صنماً من العجوة، إن وافق هواهم وأتت الجماهير بهم إلى سدة الحكم استمروا في عبادة الصنم، وإن أتت الصناديق بغيرهم أكلوه.. وليس من العجيب إذاً أن الجماهير لم تأتِ بأتباع هذه النخب في انتخابات ديمقراطية حقيقية!

أعانت هذه النخب العسكر على الانقلاب على أول رئيس مُنتخب في تاريخ مصر بصورة ديمقراطية حقيقية، وكانت برامج "التوك شو" تسهر حتى الساعات الأولى من الفجر منذ الليالي الأولى على توليته متفرغة لانتقاده، فيما يُعاد بث نفس البرامج صباحاً، والطبقة التي تدَّعي الثقافة تُفتح لها الاستوديوهات على مصارعها؛ لينتقل أحدهم من هذا إلى ذاك، ويأتي الأول مكانه، وهكذا دواليك في مناخ حرية نادر لم تشهده مصر من قبل.

لكن أولئك الذين استهانوا بالرئيس المُنتخب راحوا يكيلون الاتهامات إليه، بل على طريقة (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخلُ لكم وجه أبيكم..) من الآية 9 من سورة يوسف، وتجرأوا أكثر لما لم يجدوا رادعاً فكانوا مخلباً في يد العسكر للانقلاب على الرئيس، ظانين أن الذين خانوا العهد والأمانة وأودعوا رئيس البلاد السجن ومعاونيه سوف يصفون ويُخلصون إليهم.

وكعادة العسكر في مصر، وكعادة الخونة في كل زمان ومكان رد الأوائل على تلك النخب المُزيفة المدعاة بما يليق بها لا بما كانت تأمل.

حمل العدد الأخير من "روايات الهلال المصرية" الصادر في أبريل/نيسان الماضي إعلاناً عن عدد مايو/أيار الماضي من السلسلة، بصورة الغلاف باسم الكاتب برقم الإصدار، و"روايات الهلال" تصدر من الأساس عن "دار الهلال" المصرية الحكومية الموالية للنظام الانقلابي المصري، و"دار الهلال" أسسها "جورجي زيدان" عام 1892م، و"روايات الهلال" بدأت في الصدور في عام 1949م لتصدر رواية واحدة شهرياً، بداية من "المملوك الشارد" لمؤسس "دار الهلال"، ويغلب على الروايات الطابع الخاص بالترجمة الغربية، بالإضافة إلى نشر أعمال عربية كيفما اُتفق وكما هو معروف من النخب المُسيطرة عليها من تجنب الأعمال التي تحث على مُقاومة الطغاة وتصوير الأوضاع في عالمنا العربي على حقيقتها، فضلاً عن المجاملة وقواعدها المتعارف عليها في الإصدارات الحكومية التي لا تراعي قواعد الربح والخسارة.

أما اسم الرواية التي كان من المُفترض أن تصدر عن السلسلة للشهر الحالي فهو: "السادة الرئيس القرد"، وهي لكاتب سوداني، وعلى موقع روايات الهلال تم الإعلان عنها، بل صدر "كتاب الهلال" للشهر الماضي بإعلان على صفحة كاملة من صفحاته، كما ضمت مجلة "الهلال" لشهر مايو/أيار الماضي استعراضاً كتبته مديرة تحرير "روايات الهلال" نقلت فيه مقطعاً من الرواية، ونُشِرَ على الصفحة 209، مع إعلان آخر مجمع عن إصدارات السلسلة للشهر الحالي.

الكاتب السوداني "عبد الحميد البرنس" من المفترض أن تدور الرواية الخاصة به حول أجواء مُتخيلة، ورئيس تحرير السلسلة صحفي معروف بولائه للنظام الحالي فلن يختار في سلسلة تتبعه ما يعارضها، لكن اسم "الرئيس القرد" أثار شهية المخابرات العسكرية وأمن الدولة الانقلابيين، وقد عرفا باسم الرواية وهي تقارب الصدور فما كان منهما إلا أن أوقفا نشرها، للمرة الأولى في تاريخ الرواية، وحتى تاريخه، وقد انتهى الشهر ولم يصدر عن السلسلة لا الرواية "الرئيس القرد" ولا غيرها.

وإمعاناً في الفعل السلبي والالتفاف عليه بالكذب قال رئيس مجلس إدارة "دار الهلال"، في تصريحات صحفية، إنه لا يعرف شيئاً عن هذه الرواية.

ومن ناحيته، قال رئيس تحرير السلسلة في تصريحات صحفية: "لم أتلقَّ حتى الآن أي مذكرة رسمية أو اتصال من مسئول رسمي في دار الهلال لأرد عليهم بشكل رسمي".

صار المنع في مصر هو الأغلب ما اشتبه عنوان أو تم ذكر لقب "الرئيس"، وإن كان العمل المذكور أشرف على اختياره والإعداد لنشره أتباع الرئيس أنفسهم، ولم يعد الأمر يسير بشكل رسمي، بل صار رئيس تحرير سلسلة مشرفة على رواية عادي ليس فيه من مشكلة إلا أن كلمة "الرئيس" وردت فيه إلى جوار "القرد"، ولم يقل العنوان مَن هو الرئيس، والعمل المفترض نشره رواية تقوم على الخيال وأحياناً الفانتازيا، ورئيس التحرير يقول: لا أعرف ماذا يحدث، ورئيس مجلس الإدارة لإحدى أعرق المؤسسات المصرية يقول إنه لا يعرف شيئاً عن رواية تم الإعلان عنها لمرات خلال الشهرين الماضيين وفي الإصدارات الرئيسية لمؤسسته!

هذا نموذج ما جنته وتجنيه النخب الانقلابية على أوطان كنا نتمنى أن تتنسم عبير الحرية.. وإن لم تجن أوطاننا نفسها على أحد!





ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

فلنغير موقعنا

$
0
0
قبل حصولي على البكالوريا، كنت أتصفَّح الإنترنت لتفقد مؤسسات التعليم الجامعي التي قد أدرس بها، وكان موقع المعهد الذي درست فيه من بين المواقع التي كنت أتردد عليها بكثرة، خصوصاً بعد أن تقدَّمت بطلب الترشيح لاجتياز مباراة ولوجه، زرت تقريباً كل صفحة من صفحاته.

اليوم وبعد مضي أكثر من سبع سنوات منذ التحاقي بالمعهد، ينتابني حزن شديد ومغص غريب عندما أطل بين الفينة والأخرى على الموقع، لأجده ثابتاً لم يتغير، نفس التصميم الكئيب، ونفس الأخطاء الإملائية التي عاينتها منذ زمن، بل حتى نتائج البحث في جوجل تضع موقع المعهد في ترتيب متأخر، ناهيك عن مستوى الحماية الهزيل، فهو ليس مشفراً بالـhttps.

يعتريني الأسى لكون أول وأشهر معهد للصحافة بالمغرب لديه هوية إلكترونية تكاد تكون مجهولة، وهو الذي راكم خبرة عقود في تلقين ضروب الإعلام والاتصال، فكيف به في عصر الانفتاح والتطور الرقمي أن يبقى جامداً في حلة قديمة لا تليق به، مع أنه لا عذر لمؤسسة تابعة مباشرة لوزارة الاتصال أن يكون حضورها على الإنترنت بهذا القبح، الميزانية موجودة، وتحسين الشكل لا يتطلب الكثير منها، وأضعف الإيمان اقتناء template بثمن بخس، إن لم يرد الاستعانة بمطور أو مصمم مواقع.

من جهة أخرى، المفارقة العجيبة أن الهيئة التدريسية ذات التكوين الأكاديمي والحنكة "وداكشي" تعطي حصصاً في الـe-reputation والـgraphic design والتسويق في العالم الافتراضي، وغيرها من المدارك والمعارف القيمة، فلماذا لا تطبق ما تعلمه على موقعها أولاً، الذي يعكس صورة المعهد بمن فيه على الشبكة العنكبوتية؟ وإذا أصابها وهن وعجز أو خمول، فلتترك المهمة للطلبة المبدعين، ألا ينادون بضرورة تمكين الشباب وإعطائهم فرصة؟ فلتمنح لهم فسحة المشاركة في الرقي بقيمة وصيت المعهد على الويب! في وقت أصبح المظهر فيه أهم من المضمون، أو فلنقل إن صنع قالب مناسب وجميل شيء ضروري قبل حشوه، وهذا ينطبق على الموقع الإلكتروني، زوق تبيع!

أما المكان الذي يتبوأه المعهد على الشبكات الاجتماعية، فتلك قصة أخرى لا داعي لسردها.





ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
Viewing all 13463 articles
Browse latest View live


<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>